بوادر خروج بلدان عربية عديدة، من نفق أزمة كورونا، يرافقها صخب كبير في وسائل الإعلام المحلية حول نجاح هذه الدول في تجاوز الأزمة بأقل الأضرار، وهذا ليس خاطئا تماما. ففي حالة عدم التشكيك في البيانات المصرح بها من قبل الهيئات الصحية الوطنية في بلدان المغرب ومصر، تعتبر معدلات الوفيات وأعداد المصابين محدودة بالفعل.
لكن بالمقابل لا توجد مؤشرات واضحة على أن بلدان المنطقة بصدد الخروج بخلاصات ملائمة من الأزمة، سواء على مستوى سياسات الصحة العامة أو على مستوى طرق الإدارة والحكم، بما أن قضايا الصحة والتكنولوجيا، وكما جاء في تصريحات عدد من الساسة والمفكرين والخبراء، قد أضحت من مرتكزات الأمن القومي، ومن المتوقع أن تزداد أهميتها في رسم السياسات المستقبلية في قضايا الاقتصاد والأمن.
ومن يتابع القضايا العامة التي يجري التركيز عليها في وسائل الإعلام وخطاب السّاسة في دول المنطقة، والتقييمات المتداولة، لا يرصد تحولا ملحوظا في تناول سياسات الصحة أو السياسات العامة. وقد اعتمدت دول المنطقة على حملات التبرعات العامة لسد العجز في موازناتها لمواجهة طوارئ أزمة كورونا.
ففي مصر، تشهد ميزانية القطاع الصحي للعام المالي 2020 - 2021 أكبر زيادة في تاريخها بمعدل حوالي 25 في المائة، بحسب وزير المالية المصري د.محمد معيط.
وأكدت زارة المالية المغربية أن المملكة ستنفق ملياري درهم مغربي (حوالي 200مليون يورو) مبدئيا لمساعدة النظام الصحي في مواجهة تفشي فيروس كورونا. وأعلنت الحكومة المغربية رفع ميزانيات الصحة والبحث العلمي. وتبلغ ميزانية الصحة في المغرب 3,68 في المائة من الناتج الداخلي الخام، وفي مصر 2 في المائة.
وفي بلد غني بموارده من النفط والغاز، مثل الجزائر، ترصد الدولة ميزانيات ضخمة لقطاع الصحة، قدرت قيمتها بحوالي 80 مليار يورو خلال السنوات الخمسة عشرة الأخيرة، لكن نزيف الكفاءات الطبية والاحتجاجات على الفساد تكشف عن وجود اختلالات كبيرة في هذا القطاع.
ولم تقدم حكومات دول المنطقة التزامات واضحة على تغييرات هيكلية في منظوماتها الصحية ولا على أن الزيادات في الإنفاق على الصحة أو البحث العلمي ستصبح ثابتة في موازناتها السنوية، التي ما تزال مواردها بعيدة عن مؤشر الإنفاق العالمي على الصحة أي 7 في المائة، وهو المؤشر الذي وضعته منظمة الصحة العالمية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة في الألفية الثالثة.
مطرب الحي لا يطرب!
أسئلة عديدة تطرح في سياق الأزمة الحالية ومخرجاتها، في أفق استفادة دول المنطقة من تجارب ناجحة في العالم بدل أسلوب الهروب إلى الأمام بهدف الحفاظ على مصالح النخب الحاكمة أو جماعات الضغط المتنفّذة. وبدل الاستجابة إلى مطالب التغيير التي يرفعها الشباب والنساء وأجيال متلاحقة من الحراكات الشعبية، يتم اللجوء إلى أساليب لإعادة إنتاج نظم استبدادية انهارت أو "ثورات مضادة" لوأد أحلام الشباب واليسير مما حققوه من مكتسبات في مجال الحريات السياسية والحقوق الاجتماعية.
ومن مفارقات أزمة كورونا، أن بلدانا عربية تحتفي بعلمائها النابغين في الغرب، لكنها لا توفر لهم بيئة البحث العلمي والحرية الأكاديمية ولا تُفسح لهم المجال محليا في المساهمة في صنع القرار بعيدا عن ضغوط مراكز النفوذ في السلطة.
والأمثلة عديدة، ففي مصر احتفت الصحف المحلية بالصيدلانية الدكتورة نسرين عقبة التي تعمل حاليا باحثة بقسم الفيروسات بجامعة ايراسموس في روتردام بهولندا، إثر نشرها بحثا مع فريق علمي، في مجلة "نيتشر" العلمية البريطانية العريقة، بعنوان "جسم مضاد أحادي النسيلة البشرية يعوق ‚سارس-كوفيد2‘ ". ويوضح البحث أن المتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة"سارس - كوفيد 2" هي العامل المسبب للمرض الناجم عن فيروس كوفيد 19، وصُنف ضمن الأعمال العلمية الواعدة في سبيل البحث عن لقاح ضد كورونا.
كما أحدث تعيين الرئيس الأميركي دونالد ترامب، للدكتور منصف السلاوي، الجراح والخبير البيولوجي ذي الأصول المغربية، على رأس لجنة تطوير لقاح ضد فيروس كورونا المستجد، أصداء كبيرة في وسائل الإعلام المغربية والعربية.
وقبل أسابيع اشتعلت على مواقع التواصل الاجتماعي بتونس هستيريا جدل حول شخصية تونسي بألمانيا تحت اسم "الدكتور كمون" ونُسب إليه اكتشاف وهمي للقاح ضد فيروس كورونا، وهو جدل بقدر ما كان يعكس فضول الناس وبحثهم عن منقذ من الجائحة، فهو يؤشر أيضا إلى البحث عن قيمة علمية تجسد نجاح نخبهم في مجال الاختراعات والاكتشافات الطبية والعلمية تعوضهم عن خيبات السياسة.
وليس الأطباء أو علماء الصحة بالضرورة أنبياء، لكنهم بخلاف فئات اجتماعية أخرى طبعت تاريخ الحكم في دول كثيرة في العالم، مثل المحامين، رجال المال والأعمال، العسكر أو رجال المخابرات، فإن تاريخهم (الأطباء) مع الحكم يبدو نادرا ويتوزع بين ضروب من الشهرة والعدل والاستبداد..
وأشهرهم ثوري حتى النخاع وهو ارنستو شي غيفارا (كوبي من أصل أرجنتيني)..
ومن أشهر الأطباء الذين قاموا بأدوار سياسية في العصر الحديث، الطبيب صين يات سين، الثوري الذي أطاح بإمبراطورية الصين وأسس جمهوريتها الحديثة.
وفي العالم العربي حكم سوريا طبيب بالحديد والنار، وهو الرئيس الحالي بشار الأسد.. بينما حكم تونس في ربيعها الديمقراطي الطبيب منصف المرزوقي.
وحتى في القاموس الشعبي والإعلامي العربي الحديث، لا تعني صفة الطبيب الكثير في عالم السياسة والحكم، حتى ولو برع في السياسة والإدارة. ففي تونس أُطلق خلال أزمة كورونا على وزير الصحة الطبيب عبد اللطيف المكي صفة "الجنرال"، كإشارة لحزمه ونجاعة إدارته لقطاع الصحة في إحدى أصعب الأزمات التي واجهتها البلاد والبشرية ككل.
وعندما واجهت دول المنطقة تحديات مثل التطرف الإسلامي أو الإرهاب أو حتى تغير المناخ، سرعان ما قفزت إلى سطح المشهد السياسي نخب أمنية وعسكرية ودينية أو تكنوقراط، على أساس "الخبرة" في مجالات الاختصاص، وهذا لم يكن دائما مطابقا للواقع. لكن المثير أنه لا يحدث لحد الآن فيما يتعلق بالنخب العلمية من عالم الطب والصحة. فهل يخشى حكام دول المنطقة اليوم من "صرامة" علماء هذا القطاع، بعد أن اعتمدوا عليهم في تجاوز الأزمة بأقل الأضرار؟
وهل يمكن إصلاح سياسات الصحة في بلدان المنطقة دون تغييرات سياسية في بنيات الحكم وطرق اتخاذ القرارات السياسية، وهل تخشى النخب الحاكمة في دول المنطقة من دور استراتيجي مؤثر للنخب العلمية ومؤسسات البحث الطبي والتكنولوجي في صنع القرارات السياسية والاستراتيجية منها بالخصوص؟
كورونا كشف أعطابا في ديمقراطيات غربية
خلال أزمة كورونا ظهرت في الديمقراطيات الأوروبية والأمريكية، مجالس علمية كهيئات استشارية في اتخاذ القرارات الاستراتيجية لمواجهة الجائحة، وكيف أثرت طريقة تعامل صانعي القرار مع خبرة العلماء ونصائحهم في أداء حكومات تلك الدول.
ففي فرنسا أمر الرئيس ايمانويل ماكرون مع بداية أزمة كورنا، بتشكيل المجلس العلمي كوفيد 19، ويضم وزير الصحة وكبار مسؤولي القطاعات الصحية والعلمية. وكشف الجدل حول استقالة البروفيسور ديدييه راوول مدير المعهد الاستشفائي الجامعي للبحر المتوسط في مرسيليا، تذبذب صانعي السياسة وتأثير ذلك على إدارة الرئيس ماكرون للأزمة.
وعندما وجهت انتقادات في بريطانيا لسياسة رئيس الوزراء بوريس جونسون وإدارته لأزمة كورونا، كشفت تداعيات هذه القضية أن تركيبة المجلس العلمي الذي يساهم في اتخاذ القرارات إلى جانبه كانت أشبه ما يكون بـ"المجلس السري" وبأن تركيبته تهيمن فيها الاعتبارات السياسية وليس العلمية.
كما شكّلت العلاقة المضطربة بين الرئيس دونالد ترامب وأعضاء الهيئة الاستشارية العلمية في البيت الأبيض في أوج أزمة كورونا، مثالا ساطعا على التخبط الذي يمكن أن يصيب السياسة عندما يفتقد صانعوها إلى الرؤية العلمية الرصينة والمستقلة عن أهواء الحكام.
بخلاف الوضع في ألمانيا، حيث كان واضحا كيف أن المستشارة أنغيلا ميركل، رسمت في قراراتها الاستراتيجية في مواجهة الأزمة، خيطا رفيعا بين تأثير الدوائر الاقتصادية والسياسية ودور الهيئات العلمية، حيث ظهر ذلك جليا في لحظات دقيقة من تطور الأزمة عندما طرحت أمامها المعادلة الصعبة بين رغبة قطاعات من المجتمع في رفع الحجر الصحي وتحذيرات الهيئات العلمية من مخاطر حدوث انتكاسة أو عندما نوقشت مسألة إعادة فتح المدارس، فتعاملت مع الوضعية وفق توازن دقيق بين مطالب عالَمي الاقتصاد والسياسة من ناحية ونصائح العلماء من ناحية ثانية.
ومن أهم المؤسسات العلمية التي برز دورها بشكل وازن في القرارات السياسية على المستويين الفيدرالي والمحلي في والولايات التي يوكل لها الدستور الألماني صلاحية سن سياسات التعليم والصحة، معهد روبرت كوخ الذي يحمل اسم عالم الميكروبيولوجيا الألماني روبرت كوخ، وهو وكالة اتحادية تابعة لوزارة الصحة لكن قرارته مستقلة من الناحية العلمية والبحثية. ويعتبر المعهد المؤسسة المرجعية الرئيسية الأولى في ألمانيا فيما يتعلق بتقييم مخاطر فيروس كورونا، خلال الأزمة الحالية، وذلك من صميم اختصاصه كمؤسسة متخصصة في الأمراض المعدية.
العلماء في خدمة السّاسة؟
وفتحت أزمة كورونا الباب واسعا لنقاش على مستويات عالمية حول دور العلماء وخبراء الصحة في رسم السياسات المستقبلية، ليس فقط في السياسات الصحية، بل في السياسات العامة والقرارات الاستراتيجية بشكل عام. إذ ساهمت تداعيات الجائحة في بروز وعي أكبر بمخاطر غياب الشفافية في البيانات والمعارف العلمية وعدم إدراك الاعتبارات الصحية والعلمية من طرف صانعي السياسات أو الذين يشكلون الرأي العام (وسائل الإعلام).
وفي ألمانيا، أبدى قطاع كبير من الرأي العام، سواء من خلال استطلاعات رأي أو من خلال رصد اتجاهات الرأي في مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، ترحيبا واضحا بدور المؤسسات العلمية في توفير البيانات والمعلومات الخاصة بتطورات الوباء لوسائل الإعلام ولصانعي القرار السياسي. لكن آراء الألمان متباينة عندما يطرح عليهم مثلا سؤال يتعلق بمشاركة العلماء في السياسة.
فقد أظهر استطلاع نشرته مؤسسة روبرت بوش الألمانية، في شهر أبريل/ نيسان الماضي، بأن 81 في المائة من المستجوبين قد أعربوا عن اعتقادهم بأن أفضل طريقة لمواجهة الجائحة هو أن يتعاون الساسة والعلماء وأن تتجلى خبرة العلماء والمعرفة العلمية في القرارات السياسية. بينما ظهر انقسام في آراء المستجوبين حول سؤال يتعلق مشاركة العلماء في السياسة، إذ أعرب 39 في المائة عن اعتقادهم من أن ذلك من وظيفة العلم، وأبدى 26 في المائة أنهم لم يستقروا على رأي معين، بينما اعتبر 32 في المائة بأن على العلماء عدم التدخل في السياسة.
كما اقترح فريق من العلماء في دراسة بمجلة منظمة الصحة العالمية، العلمية الشهرية، وضع آليات تؤمّن وتوفر لأصحاب القرار السياسي البيانات العلمية بجودة تساعد على حسن تقييم الآثار الصحية، سواء على السياسات العامة في مجال الصحة أو في ميادين الاقتصاد والأمن.
ومن باب المنطق أن تأخذ الحوارات والمناقشات العامة في بلدان المنطقة العربية سياقاتها المحلية ومتطلبات تطورها المجتمعي، لكن يظل السؤال مشروعا حول مدى إمكانية إصلاح سياسات الصحة في بلدان المنطقة دون تغييرات سياسية في بنيات الحكم وطرق اتخاذ القرارات السياسية. وهل تخشى الطبقة الحاكمة في دول المنطقة من دور استراتيجي مؤثر للنخب العلمية ومؤسسات البحث الطبي والتكنولوجي في صنع القرارات السياسية والاستراتيجية منها بالخصوص؟
ولماذا لا تتم الاستفادة من مخرجات أزمة كورونا ومن تجارب ناجحة في العالم، لإصلاح أحوال السياسة بدل إعادة إنتاجها بعيوبها وفيروساتها؟!
منصف السليمي