يوميات سورية- في باب توما .... توقفت عجلة الزمن منذ انطلاق الثورة
٢٩ يوليو ٢٠١٢بلدة "داريا" كانت في قلب الحدث الدمشقي في اليومين الماضيين. كنت هناك حين تم قطع الاتصال الهاتفي واشتدت حملات المداهمات المستمرة منذ وقت طويل. الوضع غير آمن لعودتي ولم يبق لي إلا جهاز الكومبيوتر المحمول وصفحة الفيسبوك، لأتواصل مع أصدقائي في المزة، القصاع، باب توما، المهاجرين وأينما كانوا في دمشق. كلهم يتساءلون من أين صوت الرعب هذا، ما الذي يحصل في وضح النهار؟؟
المروحيات تحلق وتقصف على الحدود الخارجية للبلدة. ومع حلول المساء وسقوط "تسعة شهداء" من أبناء "دارايا"، واستنفار أمني بات معتاداً في دمشق وريفها، أستغل دقائق هدوء سريعة ليأخذني أحدهم إلى خارج البلدة. وفي طريقي إلى حي باب توما (أقدم حي مسيحي بدمشق)، بدت العاصمة بطرقها الرئيسية والفرعية شبه خاوية؛ تزدحم بشكل مفاجئ عند نقاط التفتيش فقط التي تتكاثر بشكل يومي.
اعتقدت أن وصولي سيكون بمثابة عملية انتحارية بعد ما شهدته دمشق، فأصوات القصف والانفجارات المتلاحقة ملأت آذان الدمشقيين في مختلف الأحياء. لكن المشهد تحول بشكل مباغت في ساحة باب توما. شعرت باضطراب روتيني عند وصولي؛ فما من أحد هنا يطلب منك الهوية الشخصية أو يسألك عن سبب الزيارة. وبائعو الخضار والفاكهة "البسطات" يتمركزون أينما يحلو لهم، فالزبائن المتجولون كثر. أما مخفر الشرطة فاكتفى بمد شريط لاصق يحيط بأكبر مساحة ممكنة حول نفسه كي لا يقترب منه أحد. ويجلس عناصره على كراس وضعت على باب المخفر يحملون سلاحهم ويتأملون جمال الحياة هنا..
أسلك الطريق المؤدي إلى باب شرقي "طريق الحجر". ومع كل خطوة أتقدم بها أشعر وكأني أعبر آلة الزمن في أفلام الخيال العلمي، فأنا في مكان توقف فيه التاريخ في يوم ما قبل الخامس عشر من آذار 2011. ويبدو أن المكان لا يزال يختزن الكثير من رائحة الماضي وآثار العمارة الطينية من بيوت متلاصقة ومتكتلة على بعضها لا تفصلها إلا أزقة ضيقة للعبور بينها. وهذه هي حال ساكنيها أيضا، فالمجتمع المسيحي عموما، وهنا خصوصا، معروف بتقوقعه على ذاته في الحالات المصيرية.
أتقدم بخطى ثابتة إلى أحد المقاهي كما معظم المارين هنا. والخيارات عديدة، فالبيوت القديمة في الحي تحولت، بعد سنوات من الانتعاش الاقتصادي السياحي، إلى فنادق ومطاعم ومقاه. وهو ما كان مرضيا للسياح الأجانب الذين كانوا يقصدون هذه الأماكن للاستمتاع بعبق التاريخ. أما اليوم فهذا الجزء من دمشق القديمة خال من السياح، لكن أماكنهم المفضلة لم تغلق أبوابها بفضل الحياة الهادئة والبعيدة عن "الصراع السوري".
أصل أحد المقاهي التي اعتدت ارتيادها منذ سنوات. أطلب وجبة للعشاء وأشغل الكومبيوتر المحمول. يتقدم نحوي صاحب المقهى ليلقي التحية كالعادة لكنه هذه المرة يضيف عبارة جديدة "أوعك (إياك) تفتحي شي موقع هيك ولا هيك، والله بيخربوا بيتنا، هنن بيراقبو كل شي". وبالتأكيد كان يضمر في كلامه أنه هو أيضا بدوره يراقب ما يتصفحه زبائنه. ولم يخف ذلك فهو يدس عينيه في أي شاشة حاسوب تخص زبائنه. ولم يكن الأمر غريباً بالنسبة إلي، إذ أذكر جيداً المحاولة الوحيدة لخروج مظاهرة تطالب بالحرية في شارع القيمرية، القريب جدا من هنا، في الأشهر الأولى لبداية الثورة، يومها هاجم صاحب أحد المقاهي وبعض من أزلامه الشبان المتظاهرين بعد أن أبلغ عناصر الأمن، وتولى مهمة قمعهم قبل وصول هؤلاء.
أعلم مخاوف الشارع المسيحي من فكرة هيمنة الإسلام السياسي وتبني رواية النظام حول أن ما يحصل هو مشروع إرهابي سلفي ترعاه دول الخليج. كما ينظرون إلى روسيا على أنها "المخلص" لسورية؛ والإعلام السوري الرسمي هو مصدر الحقيقة الوحيد بالنسبة إليهم، حتى في المقاهي والمخازن ومحلات التجميل وبات من النادر مصادفة شاشة تلفاز، في الأماكن الخاصة والعامة هنا، لا تكون على قناة "الدنيا". أما في الخفاء، فهناك من يتفرج على القنوات السعودية التي تبث خطب الشيخ السلفي عدنان العرعور. وقالت لي صديقتي ريتا، التي تسكن في هذا الحي حرفيا: "نحن نتابع ما يقوله العرعور، لأن خطبه تبين لنا مستقبلنا كمسيحيين، بعد الصراع السني العلوي"، والوصف من عندها.
وفي الحقيقة ليست ريتا وحدها من يعبر عن هذه المخاوف بل تشاركها فيها جمهرة واسعة من المسيحيين الذين اتخذوا موقف الحياد كموقع "آمن" لهم، كما تقول هي. فهم حسب ريتا لا يريدون شيئا سوى "أن يتمكنوا من ممارسة شعائرهم الدينية بأمان، والتجمع في المناسبات والأعياد بأمان أيضا". وهي لا تخفي أنها ترى في "بشار الأسد كحام للمسيحيين من المد الإسلامي".
وتقول صديقتي الأربعينية ريتا إن "مسيحيي الشرق يتباهون بقربهم من الغرب، ويرون أن منتهى الحلم هو الحصول على لجوء في كندا، أو غيرها من دول الغرب". فهذا اللجوء هو بمثابة ضمان للمستقبل "في حال تدهورت الأوضاع أكثر وتم فرض مشروع إسلامي يحد من حريتنا وحياة الانفتاح التي نتشبث بها".
و"بالرغم من وجود آراء معارضة للنظام داخل المجتمع المسيحي، لكنها لا تظهر عملياً على اعتبار أن "الثورة لم تعط ضمانات بأنها مشروع وطني يقوم على تأسيس دولة علمانية ديمقراطية تصون الحريات وتدافع عن الطوائف والاقليات"، تقول ريتا.
اتصلت بصديقي "ميشيل" ودعوته "لنلعب دق طاولة"، فازدحام المقاهي وإمكانية لقاء الأصدقاء يعتبر من الكماليات في الأحياء الدمشقية الأخرى، لكنه مازال أمراً طبيعياً هنا. ويعد ميشيل من المغضوب عليهم في العائلة بسبب مواقفه المعارضة للنظام ونشاطه في الثورة. ميشيل كان يؤكد لي باستمرار أنه"بالرغم من تمسك غالبية المسيحيين بالنظام الحالي واعتبار من يشذ عن هذه الطاعة هو بمثابة ملحد سياسياً، إلا أنهم يتسترون عليه".
لما وصل صديقي بادرته ممازحة: "شو وصلت بسرعة ما وقفك حاجز طيار؟" نضحك.. ويرد بجدية ممتزجة بالحزن: "حالة الأمان والاستقرار لها الأولوية". وروى لي كيف أن النظرة هنا للشبيح مختلفة فهو "قبضاي"، كما يفتخرون بتسمية بعضهم "أبو علي لافروف". وحين أسأل ميشيل المعارض عن إمكانية انضمام المسيحيين للثورة، يسارع في الجواب: "سيبقى اللاموقف هو سمة الحي هنا، بسبب الخوف من المجهول؛ فالمؤسسة الدينية لم تتدخل بشكل واضح بل خطابها أقرب إلى خطاب النظام".
روشن محمد ـ دمشق
مراجعة: طارق أنكاي