يوميات سورية ـ حواجز بكل مكان، ماذا بقي من دمشق التي نعرفها؟
١٧ يوليو ٢٠١٢تبدو دمشق في هذه الأيام شبه خاوية وخصوصا في يوم الجمعة. فغالبية الناس تقبع في منازلها تترصد أخبار المظاهرات أو تتوجس من التفجيرات التي طالت عدة أماكن فيها، إلا من كان مصرا على الخروج. ومن يخرج فما عليه إلا مواجهة حواجز الجيش ونقاط التفتيش الأمنية التي تشهد المحافظة وريفها ذروة استنفارها في هذا اليوم (الجمعة) بشكل خاص.
وبالرغم من أني أقطن في بلدة تتبع إدارياً لريف دمشق، إلا أني أعتبر نفسي دمشقية، لأن بلدتي باتت عملياً جزءا لا يتجزأ من العاصمة، والبعض ينظر إليها كحي من أحيائها. وبالمقارنة مع مناطق أخرى فإن بلدتي هادئة عموما ولم تشهد مشاركة في نشاطات "الثورة السورية" إلا فيما ندر. مع ذلك تبدو مظاهر الاستنفار الأمني فيها ملحوظة أيضاً، كما هو الحال مع كل مناطق دمشق وريفها التي باتت مفصولة عضوياً عن بعضها بوجود حواجز من سيارات الجيش أو الأمن.
وبالتأكيد فلكل منطقة معايير تحدد بموجبها مستوى التشديد فيها من عدمه. ففي بلدتي، التي تعتبر مؤيدة للنظام، يُكتفى بوجود حاجز للجيش النظامي في يوم الجمعة مهمته الوحيدة عرقلة السير ومنع المواصلات التي تخدّم المنطقة للوصول إلى قلب دمشق. فعلى المواطن في يوم الجمعة فقط، إن شاء التنقل، المرور بهذا الحاجز في مدخل البلدة. وإن كان ذكرا فما عليه إلا إبراز هويته ومن ثم يحق له أن يستقل وسيلة تنقل مختلفة. والكثيرون يفضلون سيارات الأجرة "تكسي" لأنها لا تخضع لمنع التجول خارج منطقة السكن. وبات سائقو التكسي، وبسبب كثرة الحواجز، يكتشفون طرقاً فرعية لا يضطرون إلى التوقف فيها مرارا والإجابة على أسئلة عناصر الدوريات: "من وين جايين..ولوين رايحين..".
اجتزت الحاجز الأول في ذلك الصباح وكنت في طريقي متجهة إلى حي "المزة بساتين" الدمشقي. ومن المعروف أن هذا الحي يشهد حراكاً ونشاطاً يومياً "للثوار"من أبناء المنطقة، لذا تخضع كل مداخله ومخارجه للرقابة من قبل عناصر مسلحة من أجهزة الأمن. فحواجز الجيش مخصصة للمناطق الهادئة نسبيا أو تكون مساندة لحواجز الأمن. والأخيرة متخصصة بأساليب التحقق من المارة والتدقيق في ملامح كل مواطن قد يكون مشتبها به. وبعد أن كانت دوائر الشبهة تدور حول من يستقل سيارة خاصة أو حتى عامة تحولت في الأسابيع الأخيرة إلى توقيف المشاة أيضا والتحقق من الحقائب والتفتيش الشخصي. وبينما كنت بانتظار دوري في التفتيش للعبور، عاد أحد الشبان أدراجه بعد أن منع من دخول حي المزة بساتين "لأنه ليس من أبناء المنطقة".
وحين تقدمت السيارة، التي استقلها إلى الحاجز وبعد تفتيش "طابون السيارة والباكاج"، سأل العنصر كالعادة: لوين رايحين؟ هنا نظر إلي السائق عبر مرآته الأمامية وبادر إلى القول: "على أوتوستراد المزة". سمح لنا الحاجز بالمرور فمنطقة أوتوستراد المزة ليست محظورة.
لا أدري لماذا قرر هذا السائق، الذي لم تدر بيني وبينه أية أحاديث، مساعدتي للعبور في وقت يسبق مظاهرة الجمعة بقليل؟ ورغم اجتيازي لمنطقة حواجز التفتيش لكن حي المزة بساتين لا حدود لوجود الحواجز فيه. فالسيارات المجهزة بعناصر مسلحة تجوب المنطقة باستمرار، إذ يوجه العناصر أفواه بنادقهم نحو المارة أياً كانوا: طفلاً، امرأة أو عجوزاً. وهو حال أية منطقة ينشط أبناؤها في الثورة سواء كانوا سلميين أو مسلحين.
مرت ساعات النهار وأحداثه، التي باتت لمعظم السوريين فجائع اعتيادية تختلف فيها الأرقام قليلا. عدت أدراجي برفقة صديقي. كان الانتظار طويلا، فالوقت منتصف الليل ودمشق باتت تفرغ من عابريها بدءا من الساعة التاسعة. لذا تجد أن معظم سائقي السيارات الخاصة يعودون لمنازلهم باكرا متجنبين الطواف في مدينة خالية. لم يكن انتظارنا الطويل في ساحة السبع بحرات (مركز المدينة) مملا، فحاجز أحد الفروع الأمنية، الذي يقطع الطريق عرضياً، مثير بتصرفاته للمتابعة. وكان مظهر العناصر يثير الفضول إذ تجد الذقون الطويلة والأجساد الضخمة والاستنفار في تتبع أي صوتٍ صادر مهما كان مدى قربه أو بعده وصولا إلى طريقة استجواب المارين وتفتيش السيارات.
وبعد أكثر من نصف ساعة من الانتظار مرت سيارة أجرة "تكسي" أقلتنا رغم وجود راكب فيها مسبقا، ففي مثل هذه الظروف "الناس لبعضها". اجتزنا الحواجز السبعة المتمركزة في شارع بغداد، بدءا من ساحة السبع بحرات وصولاً إلى ساحة التحرير (وهي حواجز يومية تبدأ عملها عند منتصف الليل). أوقفنا حاجز طيار (نقطة تفتيش مؤقتة وفجائية) وطلب من صديقي هويته فأعطاه جواز سفره. رد عنصر الأمن قائلا: "ما بيمشي الحال بدنا هوية". جاء جواب صديقي بديهيا: "كل بياناتي الشخصية واردة هنا أيضا".
لم يسمح لنا عنصر الأمن بالمرور لأنه بالهوية حصراً. كان صديقي يخفي هويته لأنها مكسورة وهي جريمة يعاقب عليها القانون. تجرأ صديقي واعترف بالحقيقة قائلا: "بصراحة هويتي مكسورة ولسا ما عملت ضبط". وبعد أن هدده العنصر بأنه لن يتركه ينجو بفعلته في المرة المقبلة هذه قال له "طيب ماشي". وجه العنصر نظراته إلي متفرسا في وجهي إذ يبدو أني أثرت شكوكه دون أن أدري لماذا؟. بعدها طلب مني هويتي التي لم يطلبها مني من قبل أي حاجز أمني فـ "الحرمة" لا تحتاج هنا لهوية كي تمر. وبمجرد أن لمحها (بطاقة الهوية) سورية قال لي "خلص مشي الحال"، دون أن يتأكد حتى من مطابقة الصورة وعاد بنظره إلى صديقي ليسأله "مين هاي؟". كان سؤاله مفاجئا مربكا. فماذا يقصد بسؤاله هذا، هل يفترض أن أكون محرماً أم أن عناصر الأمن وقوات "حفظ النظام" باتت تهتم بالترابط الاجتماعي وتحارب الفلتان الأخلاقي؟!
كان يوماً حافلاً بالمرور على الحواجز والتعرف على خبرات جديدة إضافية لخبراتنا السورية مؤخراً بالتعامل مع عناصر قوى الأمن و"الشبيحة". وبعد وصولي إلى المنزل بدأت سهرة "قبل النوم"، أي عد دوي التفجيرات والأسلحة النارية والتكهن بمصدر إطلاقها. وإذا ما اجتمع الأصدقاء في أحد البيوت فإن التنافس يحتدم فيما بينهم لمعرفة تحديد نوع السلاح المستخدم ومصدر إطلاق النار. تتلاحق الأصوات دون أن تهدأ ونحن في غرفة ما نعد ونحزر ما نسمع ونتأكد يوميا أننا بتنا خبراء أسلحة عسكرية نتعرف على أنواعها ومدى الخراب الذي تسببه، لنتابع في صباح اليوم التالي حصاد "شهداء موسيقى سهرتنا العنيفة في ليلة تسبق التشييع".
روشن محمد، صحفية سورية تقيم في دمشق
مراجعة: أحمد حسو