يوميات سورية ـ في دمشق .. فانوس رمضان ينطفئ ليشتعل فتيل الحرب
٢٣ يوليو ٢٠١٢لم يخرج أبو أحمد كعادته ليرى الزينة التي تنير حارات دمشق القديمة، أو ليسمع أصوات الباعة الجوالين الذين يبيعون المأكولات التقليدية السورية كالناعم والمعروك وشراب العرقسوس. ليس هذا فحسب، بل أحجم أبو أحمد هذا العام عن تقديم التهاني للجيران والأصدقاء بمناسبة حلول شهر رمضان، كما كان يفعل هذا العجوز الدمشقي.
فرحة أبو أحمد لم تكتمل كغيره من الدمشقيين هذه السنة، فرائحة البارود وأصوات القصف والرصاص التي تلاحقهم في كل مكان، حرمتهم من استقبال هذا الشهر الفضيل بأجوائه المتميزة التي اعتاد عليها السوريون وورثوها عن آبائهم وأجدادهم. وحين تسأل هذا الرجل القادم من أعرق أحياء دمشق، حي الميدان الذي تحول إلى ساحة حرب حقيقية منذ أسبوع، عن رمضان يهز رأسه في علامة استنكار شديدة ويقول: "أي رمضان هذا الذي تسألين عنه؟". وبعد توقف للحظات يكمل أبو أحمد كلامه والحزن باد على وجهه المليء بالتجاعيد بالقول: "أنا لا أعرف شيئا عن ولدي منذ أربعة أيام حين اضطررنا للهروب من منزلنا في حي الميدان ولجأنا إلى هذه المدرسة مع جيراننا"، في إشارة إلى إحدى المدارس التي فتحت أبوابها لإيواء النازحين.
فحال أبو أحمد ينسحب على معظم الدمشقيين، الذين استقبلوا هذا الشهر الكريم تحت وابل القصف والرصاص مما اضطرهم للنزوح هربا من القذائف التي كانت تنزل على بعض الأحياء في قلب العاصمة دمشق، التي تشهد أعنف اشتباكات بين عناصر الجيش النظامي والجيش الحر منذ بدء حركة الاحتجاجات قبل سبعة عشر شهرا.
تسلم أبو أحمد المواد التموينية التي جلبتها له إحدى صديقاتي من المساعدات المخصصة للعائلات التي لجأت إلى مدرسة خصصت لاستقبال النازحين الذين تحولت أحياؤهم إلى ساحات حرب حقيقية. نظر أبو أحمد إلى "السلة الغذائية" وهو يستمع بدقة إلى صديقتي وهي تتوسل إليه كي يوافق عليها وأن يقسم حصة عائلته من هذه المواد مع جيرانه، فالـ "الكمية تكفي لجميع العائلات الموجودة في المدرسة"، طمأنته صديقتي التي تركت كل شيء وتفرغت بالكامل للعمل الإغاثي.
خرجت أنا وصديقتي من المدرسة وقلوبنا يعتصرها الألم والحزن من هذا المشهد الذي لم يعتد عليه السوريين في مثل هذه الأيام. فشهر رمضان معروف بموائده ذات الأطعمة الشهية والمميزة أما الآن فبالكاد يستطيع سكان دمشق تأمين حاجاتهم الأساسية فقط، وبأسعار تضاهي بارتفاعها ارتفاع درجات الحرارة التي قاربت الخمسين درجة. وما زاد الطين بلة هو اضطرار معظم التجار إلى إغلاق محلاتهم التجارية بسبب تدهور الوضع الأمني في دمشق. هذا ما تؤكده صديقتي مشيرة إلى سوق البزورية، أحد أسواق دمشق القديمة المشهورة بمنتجاته الغذائية التقليدية والمتنوعة خصوصا في هذا الشهر الكريم.
"الحمد لله أننا استطعنا تأمين هذه المواد التموينية للعائلات"، تقول صديقتي الناشطة في مجال الإغاثة بنوع من الزهو. فالأسواق الدمشقية العريقة بدأت بالإغلاق منذ اليوم الأول للاشتباكات في دمشق، أي قبل حوالي عشرة أيام. أما اليوم فلم يبق في هذه المدينة المعروفة بأسواقها سوى بعض المحلات الصغيرة في الأحياء الهادئة نسبيا، والتي بدأت بضاعتها بالنفاذ شيئا فشيئا. "وبدلا من رائحة الأطعمة الزكية تنتشر رائحة القمامة في الأسواق"، تقول صديقتي وهي تشير إلى جبل القمامة التي تراكمت في إحدى زوايا سوق البزورية، وحلت محل الزينة الرمضانية المعتادة بعد أن انقطع عمال النظافة عن العمل في شوارع دمشق كافة لأسباب لا يعلمها إلا الله.
يقطع حديثي مع صديقتي مشهد الطابور الطويل الذي يصل إلى الشارع المقابل أمام أحد المخابز. فأصوات المشادات بين النساء تملأ أرجاء المكان وهن يتنافسن على الحصول على حصتهن من الخبز بأسرع وقت ممكن، بينما كان الرجال يهتفون ويصفقون مهنئين كل شخص يحصل على حصته من الخبز بعد انتظار طويل. لم يكن المشهد يسمح لنا أنا وصديقتي بمجرد التفكير بأن نقف لأخذ حصتنا اليومية من الخبز وآثرنا الذهاب إلى بقالية قريبة تؤمن الخبز ولكن بسعر يرتفع عن سعر المخبز بثلاثة أضعاف على أقل تقدير.
وعندما وصلنا إلى الحي الذي تقطن به صديقتي بعد أن ألحت على دعوتي على تناول طعام الإفطار في بيتها، كان رجال الأمن ينتشرون عند مدخل كل حارة وكل شارع. فبالرغم من الغياب شبه التام للدولة في المجال الخدماتي مازال حضورها الأمني طاغيا في معظم أحياء العاصمة. إذ لم يكتف عناصر الأمن والشبيحة بتقطيع أوصال المدينة فحسب، بل تطور الأمر إلى الانتشار داخل الأحياء والقيام بأعمال الدهم والاعتقال وتوجيه السلاح نحو المارة لإرهابهم.
اقتربت أنا وصديقتي من البناء الذي تسكن فيه، وإذا بأحد عناصر الأمن يقف عند مدخله رافعا سلاحه في وجه كل من يهم بالدخول. وبعد أن دقق في هوياتنا الشخصية وتأكد من أننا لا نحمل "أية شبهة أمنية" سمح لنا بالصعود. لم يكن قد تبقى على أذان المغرب سوى نصف ساعة، فسارعنا لتحضير ما نسد به رمقنا بعد هذا اليوم الرمضاني المرهق والطويل. وبينما كنا ننتظر حلول موعد الإفطار وإذا بأصوات المدافع تنطلق من جبل قاسيون المطل على دمشق، لكن ليس إيذانا بحلول موعد الإفطار كما اعتاد الدمشقيون أن ينتظروا مدفع رمضان في كل عام، وإنما لمعاودة القصف على أحياء دمشق الجنوبية بعد أن كان قد توقف لمدة ثلاث ساعات تقريبا.
استمر القصف حتى ساعات متأخرة من الليل تخلله سماع صوت هدير طائرات الاستطلاع الأمر الذي أدى إلى إحجام معظم أهالي الحي عن الخروج إلى صلاة التراويح المعتادة، وحال أيضا دون عودتي إلى المنزل فآثرت قضاء الليل عند صديقتي. جلست والدتها تتحدث إلينا وتسترجع ذكرياتها عن الليالي الرمضانية الدمشقية التي تنفرد عن مثيلاتها في أي مكان آخر متمنية بأن أن تجلب هذه الأيام المباركة الخير لكل السوريين. هذا الخير الذي لن يعم سوريا "إلا برحيل الأسد ونظامه"، على حد قولها.
سوسن محروسة ـ دمشق
مراجعة: أحمد حسو