يوميات سورية ـ حين يصبح اللاجئ الفلسطيني نازحا في دمشق
١٠ أغسطس ٢٠١٢توجهت برفقة سامي صديقي، ناشط الإغاثة، إلى إحدى مدارس الأونروا التي خصصت لإيواء اللاجئين الفلسطينين ممن وصلت المعارك إلى مخيماتهم بدمشق. دخلنا من الباب الحديدي الثقيل الذي يقبع خلفه بعض الشبان المخصصين لحماية القاطنين هنا، فكما هو الحال في كل مدارس النازحين لا يمكن الزيارة إلا بموجب موافقة من الإدارة بعد التأكد من رغبة النازح باستقبال الضيف. باحة المدرسة يملؤها أطفال لم يعرفوا بعضهم مسبقاً إلا أن المكان المشترك جداً آلف بينهم، أنهم يركضون ويصرخون لتتمازج أصوات ضحكاتهم مع مشاجراتهم. أما في القسم الأعلى قليلاً فثمة مشهد آخر: نساء ورجال يفترشون ممرات المدرسة المؤدية إلى الصفوف التي باتت منزلهم الجديد غير مكترثين بضجيج الباحة الهائل.
ندخل غرفة إدارة المدرسة، التي باتت غرفة المتطوعين المشرفين على العائلات النازحة. لم تمر ثوان قليلة وإذا بسيدة تقتحم الغرفة وتصرخ مطالبة بوجبة حليب مجفف إضافية لطفلها، وتؤكد أنهم "يدللون" معارفهم وأقاربهم أما الباقي فيرفضون إعطائهم كميات كافية. تتوجه إحدى المتطوعات في قسم المستوصف – وهو الجزء الخلفي من غرفة الإدارة- لتجلب دفتراً تسجل فيه كل ما يدخل مستودع المدرسة وكل ما يحصل عليه الأهالي من حصص. تخاطبها بلطف "يا خالتي" لم تمر ساعة على أخذك وجبة، نحن بحاجة كي نتساعد مع بعضنا.. تقاطعها السيدة بغضب وتشتم كل من في الغرفة وتخرج. تتنهد الشابة "لميس" وتقول "الله يعين الناس" علينا أن نمتص غضب الجميع هنا يكفيهم أنهم مشردون من منازلهم.
العديد من النازحين تطوعوا للإشراف وتأمين احتياجات الأسر النازحة، كما هو الحال مع لميس، الصيدلانية التي نزحت مع أسرتها إلى هذه المدرسة لكنها متفرغة لخدمة المستوصف، كما تطوع بعض النساء والرجال لأعمال التنظيف وغيرها، يخبرني سامي.
استأذن من صديقي للقيام بجولة بين الغرف والتحدث إلى المقيمين هنا. لم تكن زيارتي إليهم بصفتي صحفية فهو أمر غير مرحب ومسموح به من قبل أجهزة المخابرات التي تتولى ملفات النازحين والمتطوعين. أمُرّ بين الصفوف التي تكدست مقاعد الطلاب الدراسية في أحد زواياها لتتحول إلى منشر لغسيل ست عائلات وأحيانا ثماني عائلات. وكما ابتكروا منشر تجفيف الثياب هذا يبدو أنهم ابتكروا أيضاً حلولاً نفسية للتآلف والانسجام مع بعضهم والحر الذي يملأ المكان.
ألتقي أم أحمد، وهي سيدة شابة ثلاثينية تحمل ابنها الرضيع. دعتني بلهجتها الفلسطينية إلى مساحتها من الممر "تفضلي خيتا"، نجلس على "حافة الدرج". تخبرني أم أحمد كيف يمر الوقت هنا ثقيلاً فليس لديها من عمل سوى الانتظار حتى تهدأ حالة العنف ويتوقف القصف، وتقول مبتسمة بألم "وإذا ما راح بيتنا بشي قذيفة إن شاء الله منرجع". وتضيف هذه السيدة: "هنا لا نملك شيئاً، هربت من المنزل مع طفلي وعمره أشهر، كان كل أبناء الحي يفرون من القصف، لم أحمل معي أي شيء حتى ملابس لي ولطفلي، لا نملك إلا ما نرتديه، لكن الحمد لله هذا المكان الآمن يأوينا". تنزل الدموع من عينيها وهي تخبرني كيف مرّ يومها الأول في حديقة عامة، دون وسيلة اتصال مع زوجها الذي كان في عمله أثناء القصف، حتى فتحت المدارس أبوابها وتمكنت من اللجوء إليها.
"محمد" من أبناء مخيم فلسطين نزحت أسرته أيضا من المنزل لكن ليس إلى مدارس اللاجئين بل إلى بيوت أحد الأقارب في منطقة آمنة، كما حدثني. محمد تطوع في إحدى الجمعيات الخيرية كي يتمكن من مساعدة النازحين في المدرسة هنا. ويقول بعد أيام من "معركة دمشق" حيث نزح الأهالي من مختلف المناطق، التي تعرضت للقصف خلقت حالة استنفار حقيقية في عمل الإغاثة. ويشرح محمد كيف أن هذه التجمعات الجديدة وحالة التعاطف الإنسانية من أناس لم تشهد أحيائهم حرباً حقيقية، كان مقلقاً لفروع المخابرات، لأن سماع قصص المداهمات والقتل العشوائي من مدنيين ونساء وأطفال ليس من صالح النظام، لذا قام فرع الأمن السياسي بفرز عناصر على أبواب المدارس ومنع المتطوعين من إيصال المساعدات والتعامل مع النازحين، كما اعتقل مجموعة من الشابات والشبان الناشطين في عمل الإغاثةلأنهم لا يتبعون لجهة رسمية.
والجهات الرسمية هنا هي إما الهلال الأحمر أو الجمعيات الخيرية المسجلة في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل. "ولحسن الحظ أن بعض الجمعيات تتحلى بالإنسانية وترحب بالمتطوعين، ما سمح لنا بالاستمرار في نشاط الإغاثة"، يقول محمد. ويضيف هذا اللاجئ الفلسطيني الذي أضحى نازحا: "الوضع هنا صعب فالغرف تفتقر لكل شيء إلا من فرشات أسفنجية بسيطة تمكنّا من تأمينها. وأعداد النازحين كبيرة، أنا أبن مخيمات والفلسطيني يعرف معنى النزوح والتشرد جيداً، لكنها تجربة جديدة للسوريين لذا أعتقد أن تعايشهم مع الوضع أصعب".
اقترب موعد الإفطار وفي باحة المدرسة شيف متطوع يبدأ بطهي الوجبات لما يقارب ثلاثمائة عائلة. أجلس على حافة حجرية في الباحة مع لميس وهي تحدثني عن الحالات المرضية التي تصيب الأطفال بسبب الحرارة. تركض نحونا مجموعة من الأطفال ويسألني أحدهم "أنسة بدك تعلمينا الرسم؟" تهمس لي لميس: تزورنا هنا مجموعة متطوعين بشكل دوري لإقامة نشاطات فنية للأطفال من رسم وموسيقى وهم يحتفلون بهذا النشاط كثيراً.
أسألهم "شو يا شباب مبسوطين هون" تختلف الإجابات التي انهالت علي مع بعضها، لكن لفت انتباهي من الأصوات صوت طفل في العاشرة من عمره يقول "ما بدي أرجع عالبيت أنا بخاف من صوت الرصاص". وتقترب مني فتاة تبدو في الرابعة عشرة من عمرها وتقول بصوت منخفض "آنسة أنا خايفة هون في ناس كتير بفيق بالليل ما فيي فوت عالحمام".
ووسط ضجيجهم وحماسهم للحديث تقع عيني على طفل صامت جداً لم يتجاوز الست سنوات يقترب مني ويعانقني. احتضنته وبعد أن حدّق قليلاً بعيني شد يديه الصغيرتين حول رقبتي ليغفو دون أن ينطق بكلمة.
ويقول لي "علي" ابن الثماني سنوات "آنسة هذا أحمد لا يتكلم أبداً، المسكين أمه تركته وحيداً". ألتفت إلى لميس تهز رأسها وتقول: "منذ عام وهو لم يقابل أمه ولا يعرفون عنها شيئاً، ومن هول فراقها لا يتكلم أحمد أو حتى يضحك أو يبكي..
نسمع تحليق مروحية حربية، تعلو أنظارنا في لحظة واحدة، نصمت وعيوننا نحو السماء يسألني علي: "آنسة وين عم يقصفوا؟؟...".
روشن محمد ـ دمشق
مراجعة: أحمد حسو