معرض شامل في ألمانيا للفنّان الشهير كارافاجيو
١ أكتوبر ٢٠٠٦لقد قيل عنه الكثير، وعن مغامراته وعن جنونه وعن عبقريته. وهناك الكثير الذي سيقال في المستقبل أيضاً عن مايكل أنجلو ميريسي كاراجايو Michelangelo Merisi Caravaggio، الرسام الأيطالي المولود عام 1571 والذي فارق الحياة عام 1610 في ظروف غامضة، ويرجّح البعض أنه قٌتل. بيد أن شعور من يقرأ عن كارافاجيو سيكون بلا شكّ مختلفاً تماماً عن شعور من يقف مباشرة أمام لوحاته. فهي فعلاً لحظة حرجة مربكة ومحزنة حين تتأمل الألم والجرح العميق الغائر في جسد المسيح الذي بعث ثانيةً إلى الحياة. لكن هناك أيضاً بهجة واحتفاء في الوقت ذاته، حينما تنتقل ببصرك إلى "آمور" إله الحب عند الرومان، الفتيّ المنتصر، أو إلى لوحة "عازف العود" المحيّرة، والتي تتمع بقيمة تاريخية هائلة لمن يبحث عن تاريخ هذه الآلة الموسيقية. ففي كلّ عمل ثمّة شيء صادم مباشر، أو نفحة من الواقعية الخالية من الإضافات، الواقعية الحسّية غير المأخوذة بمفهوم السحر والجمال، بقدر ما هي مرتبطة حرفياً بالنصّ الدينيّ، وبالكتاب المقدس بالذات.
لحظة الثراء الروحي
هذه الفرصة النادرة لمشاهدة لوحات كارافاجيو مجتمعة للمرّة الأولى بعد زمن طويل أتاحها متحف قصر الفنّ Museum Kunst Palast بمدينة دوسلدورف الألمانية، حيث ضمّ هذا المعرض الذي أقيم تحت شعار "على آثار العبقري كرافاغيو" أربعين لوحةً تمثل مواضيع ومراحل مختلفة من حياة الفنّان وعمله، ومنها لوحات مستنسخة أو مكررة لا يعرف بالضبط من هو صانعها، إلا أنها تنتمي كلها إلى الحقبة الزمنية ذاتها.
وعادة ما يسبغ مؤرخو الفنّ على هذا الرسّام سمة الواقعية الصرف والتي لا تختلف كثيراً عن واقعية فنانيّ عصر النهضة الكبار من أمثال دافنشي ورافائيل وأندريا مونتغنا. بيد أننا نعثر هنا على واقعية المباغتة والفورية واللحظة الدراماتيكية المباشرة. فعمله "مأدبة في أيماوس" على سبيل المثال، والذي يظهر فيه المسيح حليقاً يتصدر المائدة ويحيط به مريدوه، لم يكن أكثر من محاكاة لنصّ إنجيلي يبشر بظهور المسيح بهيئة جديدة. فنرى هنا لحظة الانفعال المهيمنة على كلّ تفصيل من تفاصيل المشهد، حيث بدت العناصر كلّها في حركة توحي بالقلق المتزايد. وعلى الرغم من أن المناسبة، وحسبما تكشف المائدة، المتواضعة إلى حدّ ما، يجب أن تكون مناسبة مفرحة؛ بل إننا نرى حتى الطعام نفسه وكأنه يتزحزح قليلاً من حافة المائدة. بيد أن الطعام والنبيذ لم يمسّا بعد، ولعلهما لن يمسّا أبداً، لأن هناك حدثا ما بدا للمجتمعين أشدّ أهميةً وخطورة. وهناك أيضاً لوحة تمثل لحظة اعتقال عيسى المسيح. وهي أيضاً مدهشة في تنفيذها، إذ اجتمعت فيها الكثير من الحالات المتناقضة، فهناك خيانة صريحة جسدتها قبلة يهودا على خدّ المسيح، وهناك فزع من حضور الجنود الرومان بدروع القتال والخوذ الحربية، لكنهم بلا ملامح واضحة، على العكس من وجه المسيح الذي علته الدهشة. هذه اللحظة الدراماتيكية التي غيّرت مجرى التاريخ والتي لم تفقد شيئاً من حضورها ومحتواها العملي التطبقي، فهناك خيانة واعتقال وقتل في كلّ عصر حتى عصرنا الحالي.
فهنا لم يهتم كارافاجيو بالعناصر التي لا علاقة لها بمركز اللوحة، فخلفية اللوحة معتمة، لا تشي بمكان معيّن، وقد سقط الضوء كلّه تقريباً على وجوه شخوص الحدث، أي على كلّ ما هو حيّ فيها. لكن ليس هناك سوى اللون الأسود والبني والرمادي وثوب المسيح الأحمر ووجهه الشاحب المليء بالألم، أي أنه اللون في معاناته القصوى قبل ولادة الضوء.
الاقتراب من التيار الطبيعي
وفي تصويره لموت "مريم العذراء" يقترب كارفاجيو من التّيار الطبيعي في التصوير الفنّي الذي عُرف فيما بعد باسم "الكارافاجيّة" Caravaggismo، حيث أقصى الفنّان جميع الأبعاد والتصورات الميثيولوجية والتقديسية عن مريم، فجعلها امرأة عادية، قبيحة إلى حدّ ما، شاحبة الوجه، ولم يحط بها سوى ثلّة صغيرة من المشيعين، وقد جلست مريم المجدلية إلى جانب نعشها المكشوف تنتحب، ووقف بضعة رجال علا وجوههم الحزن. وقيل إنّ كارفاجيو استعار وجه مريم من غانية رومانية ميتة، مما أدى إلى المطالبة بمنع عرض اللوحة في روما آنذاك، لكنها عرضت رغم ذلك مرّة واحدة على الأقل.
حياة بوهيمية
ولد مايكل أنجلو كارافاجيو لعائلة مهتمة بالفنّ فكان أبوه معمارياً. وبعد وفاة أبيه وجدّه بمرض الطاعون هرب مايكل أنجلو وهو في سنّ الخامسة مع أمه وبقية العائلة إلى قرية "كارافاجيو". وفي عام 1584 ذهب إلى ميلانو، حيث تعلّم الرسم، ورحل بعد ذلك إلى روما، ودخل إلى مدرسة "دأربينو" D`Arpino الشهيرة التي تخرّج منها فان دايك وبرويغل. وأظهر كرافاجيو اهتماماً خاصاً بالمذهب الطبيعي وبتصوير الحياة اليومية. ثم بدأ يهتم بالمواضيع الدينية التي قربته من الكنيسة التي حظي برعايتها. وعرف عنه أيضاً سرعة الغضب والعدوانية، فقد قتل أحد خصومة في مبارزة، وهرب من روما إلى مالطا، وأثار انتباه الأوساط الفنيّة والدينية هناك قبل أن يفتضح أمره. لكنه استطاع الهرب من السجن والذهاب إلى صقلية، حيث أمضى عامين. وقد بدت عليه هناك أعراض الأمراض العصبية فوصفت حالته بعدم الاستقرار. وتمكن من العودة إلى ميلانو، حيث تورط بجريمة قتل للمرّة الثانية. وقد ألقى ألقبض عليه، ربما بحكم الاشتباه، على الرغم من العفو الذي أصدره البابا بعدم التعرّض إليه. وبعد إطلاق سراحه عاش حياةً مضطربةً يائسة، إلى أن عثر عليه ميتأ، وربما مقتولاً في البلدة الساحلة بورت أركولي.
المعرض وملحقاته
لم يكتف القائمون على المعرض الخاص بعرض لوحات الفنّان فقط، إنما وضعوا برامج ثقافية حافلة تشتمل على القراءات الأدبية لكتّاب معروفين مثل هننغ مانكيل Mankell وغيرهارد فالكنر Falkner وأندريا كاميللري Camilleri وغيرهم. بالإضافة إلى ورشات عمل للرسم المجسّم، وفق مذهب المدرسة "الكرفاجية"، ومحاضرات تتناول تاريخ الفنّ وعلاقة كارافاجيو بالفنانين المجايلين له، وكذلك تأثيرة على الفنانين اللاحقين من أمثال فرمير Vermeerوربمبرانت Rembrandt وديلاكروا Delacroix. وثمَة دورات تعليمية خاصة بمعلميّ المدارس، وحلقة دراسية عن كارافاجيو، وعرض فيلم عن الفنّان، فضلاً عن إقامة حلقة نقاش حول المؤثرات الدينية في عمله، بالإضافة إلى حفلة لموسيقى الباروك. وبذلك تكون الدورة الطبيعية للعمل الفنّي قد تحققت على أكمل وجه.
ويستمر المعرض الفريد من نوعه حتى السابع من كانون الثاني / يناير القادم.