مشروع الشراكة الأورومتوسطية: التعاون الاقتصادي أكثر الجوانب تقدما
تشكل الشراكة الأورو المتوسطية المسماة أيضا "عملية برشلونة" والتي تأسست عام 1995 أكثر مساعي الاتحاد الأوروبي شمولية حتى الآن لإعداد مفهوم إقليمي عالمي لحوض البحر المتوسط. وقد اعتبرت هذه الشراكة مثلا طموحا لكيفية صياغة السياسة الخارجية الأوروبية المشتركة مستقبلا تجاه دول خارج الاتحاد (ما يدعى بدول ثالثة).
ومما دل وما زال يدل على البراعة الدبلوماسية للسياسة الأوروبية المتعددة الأطراف أن عدد المشاركين بالعملية بلغ في البداية 10 من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي ليصبح الآن 25 دولة ومن الدول المجاورة لحوض البحر المتوسط 12 دولة في البداية ومن بعد عشر دول توجد نزاعات بين بعض منها (المغرب، تونس، الجزائر، مصر، الأردن، سوريا، لبنان، المناطق الفلسطينية، إسرائيل، قبرص، مالطة، تركيا. في مايو/ أيار انضمت كل من مالطة وقبرص إلى الاتحاد).
وقد هيمنت على المرحلة التأسيسية روح الشراكة الحقيقية. وكانت أسباب ذلك على نحو خاص تخفيف حدة التوتر القائم في الوضع السياسي فيما يتعلق بنزاع الشرق الأوسط من خلال إبرام اتفاقيات أوسلو عام 1993. أما في الأعوام اللاحقة فقد اتسم تطبيق الشراكة الأوروبية المتوسطية بطابع مخالف للآمال المعقودة عليه.
شراكات عديدة
قامت الصيغة المبتكرة للشراكة في الأصل على قاعدة التوزيع إلى سلال ثلاث مرتبطة ببعضها ارتباطا وثيقا وهي الشراكة السياسية والأمنية الهادفة إلى خلق منطقة للسلام والاستقرار في حوض البحر المتوسط والشراكة الاقتصادية والمالية الهادفة إلى إنشاء منطقة للتجارة الحرة حتى عام 2010 والشراكة في المجالات الثقافية والاجتماعية والبشرية بهدف تحقيق تقارب بين مجتمعات منطقة البحر المتوسط.
ولكي يكلل تطبيق هذه الفكرة بالنجاح فإن الأمر يتطلب وجود تلاحم بين هذه السلال الثلاث. فقد اقتضت الحاجة الإسراع في تصحيح الفرضية القائلة إن الانفتاح الاقتصادي يفرز تلقائيا انفتاحا سياسيا في دول الشراكة المتوسطية العربية.
كذلك تم اتخاذ محاولة جديدة لتكثيف التعاون إقليميا وثنائيا في آن واحد، علما بأن المستوى الإقليمي شكّل 10 بالمائة فقط من الشراكة الأوروبية المتوسطية. هناك محاولة جديدة أخرى هي العمل على دعم عمليات الإصلاح "من الداخل" أي من خلال مساهمة منظمات المجتمع المدني تخطيا لأشكال التعاون الثنائي البحت بين الدول فحسب.
مع أن صيغة الشراكة الأوروبية المتوسطية ما زالت تشكل إطارا مناسبا للتعاون بين الاتحاد الأوروبي ودول حوض البحر المتوسط الجنوبية والشرقية، إلا أن الرصيد العملي للتطبيق مختلط الجوانب.
عواقب إخفاق عملية السلام
تضمّن أحد المشاريع المركزية للشراكة السياسية والأمنية ميثاق السلام والاستقرار الذي طرح كقاعدة سلوكية تهدف إلى تسوية النزاعات بالطرق السلمية وتضمن بقاء الحوار السياسي على نحو استمراري أثناء اندلاع نزاع ما.
لكنه لم يتم التوقيع على الميثاق حتى هذا اليوم نظرا لأن الحوار السياسي قد وصل خاصة بسبب إخفاق عملية السلام في الشرق الأوسط بعد 1996 إلى طريق مسدود.
لنفس هذا السبب اقتضى الأمر حتى الآن عقد كافة المؤتمرات الرسمية لوزراء الخارجية في أوروبا حيث قاطعت سوريا ولبنان تلك المؤتمرات مرارا احتجاجا على السياسة الإسرائيلية في المناطق المحتلة.
مع ذلك فقد حققت السلة الأولى ولو مجرد نجاح جزئي حيث جرت محادثات غير رسمية بين أطراف نزاع الشرق الأوسط هذا حتى ولو أن المحادثات الرسمية التي جرت في إطار عملية السلام الخاصة بالشرق الأوسط قد انقطعت.
كما أنه تم اتخاذ إجراءات متعلقة بخلق الثقة ومن ذلك على سبيل المثال اللقاءات الدورية بين كبار المسؤولين وشبكة الأبحاث يورو- ميس –كو أو تبادل المعلومات حول المناورات العسكرية.
غياب الضغط السياسي
لكن الاتحاد الأوروبي لا يلجأ لاستخدام البنود الخاصة بالشروط الموضوعة في اتفاقيات الشراكة ولا يمارس ضغطا سياسيا يذكر على أنظمة "دول الشراكة" إزاء مسائل حقوق الإنسان كما أنه يهمل مطلبه الخاص بتكريس الديموقراطية في تلك الدول لصالح التعاون الاقتصادي و"الاستقرار" السياسي.
الشراكة الاقتصادية والمالية تشكل صلب العملية وأكثر جوانبها تقدما. وقد أبرم الاتحاد الأوروبي اتفاقيات شراكة ثنائية مع كل دول حوض المتوسط المشاركة ما عدا سوريا. وبذلك تكون المرحلة الأولى المعنية بإنشاء المنطقة التجارية الحرة المنشودة قد دخلت حيز التنفيذ.
ومن المقرر في مرحلة ثانية دفع عجلة الاندماج الإقليمي قدما وذلك من خلال توقيع دول حوض المتوسط اتفاقيات فيما بينها أيضا على نمط اتفاقية أغادير المبرمة عام 2004 حول التجارة الحرة.
ومازال صلب المشاكل المركزية يكمن في تخلف القطاع الخاص وفي انعدام الاستثمارات الأجنبية المباشرة واستمرار وجود الحواجز التجارية وانخفاض معدلات التحديث والتنويع في القطاع الإنتاجي.
التعاون الثقافي
يراعي الاتحاد الأوروبي عبر الشراكة الثقافية والاجتماعية الأبعاد الثقافية لعلاقاته الخارجية مع دول حوض المتوسط الثالثة. وعلى الرغم من ضآلة رصيد المجالات الشائكة للتعاون كمكافحة الإرهاب أو احترام حقوق الإنسان فقد أمكن تحقيق بعض أوجه النجاح في مجال التعاون الثقافي.
فقد عقد عدد كبير من المؤتمرات كما جرت العديد من النشاطات الثقافية وتم دعم والإعلان عن البرنامجين الإقليميين " التراث الأوروبي- المتوسطي " و " مشروع أوديوفيزيول الأوروبي- المتوسطي". كما أن هناك لقاءات تجري دوريا بين ممثلي المجتمعات المدنية في إطار المنبر الأوروبي- المتوسطي المدني.
وقد بدأت مؤسسة أنا ليند للحوار الثقافي الأوروبي- المتوسطي أعمالها في الإسكندرية في ربيع عام 2005، وهذه هي المؤسسة الأولى لعملية برشلونة فوق "الأرض العربية" مما يكسبها بالتالي قوة رمزية كبيرة.
من خلال هذه البرامج الثقافية يمكن للعاملين في القطاع الثقافي في جانبي البحر المتوسط تنفيذ مشاريع مشتركة تساهم أيضا وبصورة فعالة في تطوير ونقل المعرفة التكنولوجية.
أما في مجال الهجرة فلم يتحقق حتى الآن إلا القليل، كما أنه لم يتم إعداد مقترحات بناءة بسبب وضع اللاجئين على حدود المغرب وأسبانيا وإيطاليا. ومازال المرء بعيدا تماما عن تحقيق الهدف الأصلي المتعلق بتحسين المعطيات المعيشية لمجتمعات شمال أفريقيا على نحو يؤدي مجددا إلى خفض عدد المهاجرين من هناك إلى أوروبا.
وهنا تتضح معالم التناقض الداخلي لعملية برشلونة. إذ يتم من جهة إعادة "اكتشاف" حوض البحر المتوسط من الناحيتين السياسية والثقافية حيث المساعي جارية لخلق منطقة يسودها التفاهم والسلام والاستقرار. من جهة أخرى يمارس الاتحاد الأوروبي سياسة مبنية على التباعد حيث أنه يحكم إغلاق حدوده بصورة متزايدة.
تأسيس شبكات اتصال
ما زالت نسبة مشاركة دول المتوسط الجنوبية والشرقية في "ملكية" الشراكة الأوروبية المتوسطية محدودة، وفيما نشطت كثيرا بعض دول الاتحاد كحال فرنسا وإيطاليا وأسبانيا، فإن الدول الأخرى أقل التزاما.
وهناك في هذا الصدد أوضاع تنافسية لها مردود سلبي، الأمر الذي يسري على الناشطين في المنظمات غير الحكومية أيضا. وطالما ارتفعت أصوات تشكو من ضآلة حجم الشراكة الأوروبية المتوسطية بكاملها والإجراءات المتخذة منها.
صحيح أن "السياسة الأوروبية للجوار" منوطة بتكملة الدور الذي تلعبه الشراكة نفسها وليس على الإطلاق الحل محلها، إلا أن هذه السياسة تعني على المدى المتوسط العودة إلى المظلة الثنائية للعلاقات بين الدول وبالتالي إهمال التعاون الإقليمي القائم في إطار الشراكة الأوروبية المتوسطية.
مع أن رصيد التطبيق الذي تحقق حتى الآن من الشراكة الأوروبية المتوسطية إذن مدعاة للخيبة ولو جزئيا، إلا أن المدخل الذي قدمته السياسة الخارجية الأوروبية عبر هذه الشراكة محط اهتمام ملحوظ على المستوى الدولي، الأمر الذي أظهره الجدل حول الإصلاحات في العالم العربي.
هذه الشراكة هي جوهر ظاهرة جديدة تسمى "الشراكة الاستراتيجية للاتحاد الأوروبي مع منطقة البحر المتوسط والشرق الأوسط". وحتى الولايات المتحدة الأمريكية نفسها بدأت فجأة تبدي اهتماما بهذه الشراكة التي ساهمت لدى الأطراف المعنية في شحذ الإحساس بحتمية تكريس مسؤولية مشتركة تجاه منطقة المتوسط.
وبالتالي أمكن احتواء الأحكام المسبقة القائمة لدى الطرفين وبدأت شبكات اتصال متخطية للإطار القومي تظهر في تلك المنطقة وتتسم في هذه الأثناء بديناميكية خلاقة. إن التقارب بين مجتمعات أوروبا والمنطقتين الواقعتين جنوب وشرق المتوسط عملية طويلة شاقة وبعيدة الأجل.
لهذا تطلب الأمر إعادة النظر في الآمال المتسمة بالمغالاة والمفتقدة إلى الواقعية المعقودة في عملية برشلونة. ولا شك أن مفهوم هذه الشراكة يبقى سليما وصحيحا رغم أن مصطلح روح الشراكة نفسه بات اليوم بمثابة حبر على ورق. إذ بالإمكان تحسين آليات هذه الشراكة وطرق تطبيقها.
بقلم إزابيل شيفر
ترجمة عارف حجاج
حقوق الطبع قنطرة 2005
إيزابيل شيفر (مواليد 1967) باحثة في مركز سياسة الشرق الأوسط في جامعة برلين الحرة، تهتم بشكل خاص بموضوع الشراكة الأورو متوسطية.