فضيحة "أوراق بنما"- هل تضع حداً لغسيل الأموال القذرة؟
٩ أبريل ٢٠١٦
كم من آلاف المقالات كتبت ومئات التقارير التلفزيونية نُشرت عن فضيحة "أوراق بنما" الخاصة بشركات "الأوفشور" خلال الأيام القليلة الماضية. وكم من المقالات والتقارير ستنشر لتثير المزيد من الضجة وتشغلنا على مدار الساعة كما حصل بعد الكشف عن "أوراق لكسمبورغ" وقبلها "أوراق سويسرا" المشابهة.
في الحقيقة لا تكمن الأهمية في "أوراق بنما" الخاصة بشركات وحسابات "الأوفشور" فقط في كونها فضيحة جديدة من العيار الأكثر ثقلا في عالمي السياسة والأعمال، بل أيضا من كونها تؤكد على صحة اعتقاد غالبية الناس في عالم اليوم بأن النخب السياسية والاقتصادية من مختلف النظم الدكتاتورية منها والديمقراطية تعيش ولو بدرجات مختلفة فوق القانون وتمارس الفساد من خلال غسيل الأموال وغيرها.
كما تظهر كذلك تعفن النظام المالي العالمي الحالي الذي تتحكم به بنوك ومصارف تتسبب بأزمات عالمية تصطاد الواحدة منها الأخرى وتدفع المزيد من ملايين الناس إلى حافة الفقر والحرمان.
ويبدو أن الكثير من هذه البنوك لا تتورع حتى في التورط بصفقات قذرة تصل إلى حد تمويل الجرائم والأنشطة الإرهابية بأسماء مستعارة.
الجدير ذكره أن "أوراق بنما" أفادت بأن 500 من المصارف والبنوك في ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وسويسرا ولوكسمبورغ ودول أخرى عملت على تأسيس وإدارة 16500 شركة "أوفشور" يمكنها القيام بمثل هذه الأنشطة. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن هناك أكثر من 50 دولة تحتضن ملاذات أو ما يسمى جنات ضريبية إلى جانب بنما، يمكننا تصور حجم شبكة الأموال غير الشرعية التي تنشط في ظل النظام المالي والاقتصادي العالمي الحالي. وللتدليل على ذلك نذكر على سبيل المثال أن نقابة دافعي الضرائب الألمانية تفيد بأن الأغنياء الألمان لوحدهم يخفون في الجنات الضريبية ما لا يقل عن 400 مليار يورو.
الملاذات الضريبية والعرب؟
على الصعيد العربي ليس الجديد في "أوراق بنما" الكشف عن عمليات الفساد وغسيل الأموال التي تقوم بها النخب السياسية والاقتصادية العربية والتي قد يكون الأسوأ من نوعه في العالم. الجديد في الأمر سؤال الناس في العالم العربي عن السبب الذي يدفع حكاما أمثال الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان وأمير قطر السابق حمد بن خليفة آل ثاني والملك السعودي سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمير محمد بن نايف إلى إخفاء أموالهم في ملاذات ضريبية طالما أنهم يسيطرون بشكل مطلق على دولهم، التي لا تفرض ضرائب تذكر أو تعفي من دفع الضرائب؟
من خلال نظرة حيثيات الأمر يبدو أن هناك الكثير من الأسباب التي تدفع هؤلاء الحكام إلى ذلك. فالحكام والأثرياء العرب وغيرهم ينجذبون إلى ملاذات ضريبية مثل بنما ليس من أجل التهرب من الضرائب، بل من أجل وضع أموالهم واستثمارها هناك في حسابات وشركات بأسماء مستعارة تخفي أصحابها الحقيقيين بعيدا عن أعين الحساد والمنافسين والقنوات الحكومية والبيروقراطية الرسمية. كما أن وضع الأموال هناك يسمح لهم بغسيل أموال غير مشروعة مصدرها سرقة المال العام وعمولات صفقات شراء السلاح وتهريب النفط والغاز. وبعد عملية الغسيل هذه يمكن لهم استثمار هذه الأموال في شراء العقارات واليخوت والمجوهرات وتمويل صفقات سلاح سرية وتقديم الرشاوي وما شابه ذلك.
من المستفيد من أوراق بنما؟
ينشغل الكثير من الناس والخبراء ووسائل الإعلام بالأسئلة عن الجهة الحقيقية التي تقف وراء الكشف عن فضيحة "أوراق بنما"، من الذي موّلها ولماذا الكشف عنها في هذا الوقت؟ أسئلة تصعب الإجابة عليها بدقة في الوقت الحاضر، لكن إلقاء الضوء على المستفيد منها تساعد بلا شك في إلقاء بعض الضوء على خفاياها.
السؤال الأول، من الذي موّل عملية الكشف عن الأوراق التي أعدها الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين الذي يتخذ من واشنطن مقرا له؟ من هو هذا الاتحاد ومن يموّله؟ وشارك في عملية الكشف 400 صحفي من مختلف أنحاء العالم على مدار سنة. ومما لا شك فيه أن مشاركة كهذه تكلف ملايين الدولارات، لاسيما وأن برامج إنترنت عالية الكلفة استخدمت في عملية الكشف. وإذا ما تبين من الذي دفع هذه الملايين يمكن توضيح المزيد عن خفايا العملية الكشف ودوافعها.
أما فيما يتعلق بالمستفيد لا بد من القول أن الولايات المتحدة تقود منذ سنوات حملة لتجفيف الملاذات الضريبية في الخارج بدأتها بسويسرا. وقد نجحت إلى حد ملموس في ذلك من خلال إلزامها لهذا البلد وعشرات البلدان الأخرى بالتنازل عن نظام السرية المصرفية تجاه الدوائر الأمريكية. فبعد ضغوط وتهديدات تقوم هذه البلدان بتزويد هذه الدوائر عن الزبائن الأمريكان الذين لديهم حسابات مالية في بنوكها بهدف الكشف عن مدى تهربهم من الضرائب. غير أن المفارقة في الأمر تتمثل في رفض واشنطن التعامل مع هذه الدول بالمثل من خلال رفض تقديم بيانات مماثلة عن مواطني هذه الدول الذين أودعوا أموالهم في الولايات المتحدة ويتهربون من الضرائب تجاه وطنهم الأم. وفي الوقت الذي تطالب فيه واشنطن الدول الأخرى بالتنازل عن نظام السرية المصرفية تجاهها تقوم هي نفسها بتعزيز هذه النظام داخل الولايات المتحدة. وتفيد العديد من التقارير بينها تقرير لجريدة "برلينر تسايتونغ" بتاريخ 5 أبريل/ نيسان 2016 أن "الجنات الضريبية تزدهر منذ عام 2010 في أربع ولايات أمريكية هي نيفادا وجنوب داكوتا وايومنغ وديلاوير. ففي الأخيرة على سبيل المثال تشير المعطيات إلى وجود من 200 ألف شركة أسست هناك شركات "صناديق بريدية" في مقدمتها شركات آبل وغوغل ودايملر وفولكسفاغن.
هل تكون آسيا مكان الكشف القادم؟
السؤال الذي يطرح نفسه هنا، إذا كانت الشركات والبنوك الأمريكية لا تقل نشاطا في الجنات الضريبية عن مثلتها الأوروبية وغير الأوروبية، لماذا خلت "أوراق بنما" تقريبا من ذكرها؟ ثم لماذا ركزت الحملات الإعلامية على سياسيين دون غيرهم كالرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع أن اسمه لم يرد في الأوراق وإنما أسماء مقربين مقرب منه؟ لماذا تركز الصحف الفرنسية في حملتها على مسؤولين جزائريين دون الشركات والبنوك الفرنسية المتورطة؟
رغم هذه التساؤلات هناك من يأمل في أن الكشف عن "أوراق بنما" سيساعد في مكافحة عمليات غسل الأموال غير الشرعية. للوهلة الأولى تبدو عملية الكشف خطوة هامة على طريق تجفيف ملاذات الأموال غير المشروعة، غير أن خبرات السنوات الماضية تفيد بأن أصحاب الأموال غير المشروعة يعيدون توجيهها نحو الملاذات الأكثر أمنا وحماية. وهذه الأخيرة ليست متوفرة في الولايات المتحدة وحسب، بل أيضا في بريطانيا والجزر التابعة لها في البحر الكاريبي والقريبة من بنما. ولا ننسى كذلك الجنات الضريبية الآسيوية وفي مقدمتها هونغ وسنغافورة.
على صعيد متصل لا يرتبط تجفيف ملاذات الأموال غير المشروعة بالجنات الضريبية فقط، بل أيضا بوضع القيود الصارمة على البنوك والمصارف التي تبدو قادرة على التحايل وتقديم خدمات مالية تبدو مشروعة مع أنها في الواقع يمكن أن تستخدم في تمويل صفقات "وسخة".
وفي كل الأحوال يشير الكشف عن "أوراق بنما" أن مسلسل الكشف عن الملاذات الضريبة سيستمر طالما هناك من يستفيد منها سواء على صعيد جذب الأموال وتمويل الصفقات أو على صعيد التوظيف السياسي. السؤال هنا هو يا ترى أين سيكون الكشف القادم؟ هل سيكون في شرق آسيا؟