علاء الأسواني: هل نحتاج إلى رجال الدين؟!
١٠ ديسمبر ٢٠١٩كان الشيخ محمود أبو العيون (1882-1951) يشغل منصب سكرتير الأزهر، وفي عام 1947 زارته بعض الممثلات لسؤاله في بعض الأمور الدينية فقال لهن الشيخ أبوالعيون: "إن المطربة والممثلة والراقصة وكل امرأة تكسب عيشها عن طريق الفن، إنما تكسب مالاً حراماً".
أثار تصريح الشيخ أبو العيون ضجة كبرى وأغضب ملايين المصريين، فأعلن الفنانون جميعا رفضهم لكلام الشيخ عن الفن. حاول أبو العيون التراجع وقال إنه يرفض فقط عمل الممثلات اللاتي ينشرن المتعة المحرمة ويثرن الغرائز، لكنه يشجع الغناء الذى يبعث المعاني السامية في النفوس ثم أشاد بعبدالوهاب وام كلثوم لكنهما وجها إليه نقدا قاسيا فقالت أم كلثوم: "الفن أكبر وأسمى من أن تُتّهم المشتغلات به بتلك التهم الباطلة، بل لعل الفن أشرف عمل قام به إنسان في الوجود". أما عبد الوهاب فقال "كان على الشيخ أبو العيون أن يحدد لنا بالضبط معنى كلمة الفن، وأنا واثق أنه يفهم هذه الكلمة على غير حقيقتها".
أما العلامة الدكتور زكي مبارك فقال: "لقد نلت الدكتوراه من الأزهر الشريف، وهي شهادة لم يحصل عليها فضيلة الشيخ أبو العيون، وقرأت جميع الحواشي والمتون، ولكنني لم أعثر على رأي يؤيد كلام فضيلته".
هكذا رفض المجتمع المصري أى محاولة لتحقير الفن وتحريمه، حتى لو جاءت من سكرتير الأزهر. فقد كان المصريون آنذاك يعتزون بالفن المصري الذى كان في ذروة مجده لدرجة أن القاهرة كانت تسمى "هوليوود الشرق ". بعد ثلاثين عاما من هذه الواقعة ظهر في مصر مجموعة من الشيوخ الوهابيين وأقنعوا الناس بأن الفن حرام، بل إنهم قاموا بغسيل أدمغة بعض الممثلات حتى أعلن توبتهن عن الفن وكأن الفن ذنب كبير.
لماذا رفض المصريون تحريم الفن في الأربعينيات ثم قبلوه في السبعينيات؟ في الأربعينيات برغم الاحتلال البريطاني كانت الثقافة المصرية في أوج ازدهارها، وكانت المواهب المصرية الكبيرة تواصل إبداعها في كل المجالات وكان المجتمع يتمتع بالحريات الفكرية والسياسية. ولم يكن المصريون قد عرفوا الحكم العسكري، كما أن عصر النفط لم يكن قد بدأ؛ فكانت الآراء الوهابية كتلك التى أعلنها الشيخ أبوالعيون تبدو شاذة ويلفظها المجتمع فورا.
في السبعينيات كانت الديكتاتورية العسكرية تحكمنا منذ 1952 وقد مارست على الشعب قمعا شديدا وجردته من حقوق الإنسان والحريات العامة، ثم ارتفع سعر النفط بعد حرب أكتوبر مما منح دول الخليج قوة اقتصادية غير مسبوقة، فتم انفاق ملايين الدولارات لترويج الفكر الوهابي كما اضطر ملايين المصريين للعمل في الخليج ثم عادوا بمفاهيم وعادات وهابية. عندئذ ظهر نمط جديد من رجال الدين، هو الداعية الوهابي الذى تدفقت عليه أموال النفط فصارت له برامج تليفزيونية ومساجد وجمعيات إسلامية ميزانياتها بالملايين.
نجح هؤلاء الدعاة في السيطرة على عقول ملايين المريدين الذين صاروا يتابعون شيخهم في التليفزيون وهم مبهورون بكل ما يقول ويجلسون تحت قدميه في المسجد يتلقفون كل كلمة ينطق بها لتكون تعليمات مقدسة. إن الداعية الوهابي في نظر مريديه ولي من أولياء الله لا تجوز محاسبته ولا يجوز الاختلاف معه. جرب أن توجه نقدا لأحد هؤلاء الدعاة فسوف ينهال عليك أتباعه بالشتائم المقذعة وسيتهمونك بالعداء للإسلام، فالإسلام في عقيدتهم هو ما يخرج من فم شيخهم!
إن انتشار هؤلاء الدعاة قد ألحق ضررا جسيما بمصر، لأن الديكتاتور يستعملهم كأدوات للسلطة وقد رأينا كيف وقف هؤلاء الدعاة ضد الثورة في عام 2011 وأعلنوا أنها مؤامرة ماسونية. إن هؤلاء الدعاة يستعملون فكرة الحياة الأخرى كمخدر يجعل المظلومين يتحملون الظلم، فهم يقنعون أتباعهم بتحمل حياتهم البائسة في انتظار النعيم بعد الموت. إنهم لايعتبرون الدين دفاعا عن الحق وإنما يحصرونه في مجموعة طقوس وإجراءات مثل الصلاة والصيام والحج. كما أن أكثر ما يشغلهم تغطية جسد المرأة، فهم يخوضون نقاشا لا ينتهى عن الخمار والحجاب والنقاب. الأخطر من ذلك أن الداعية الوهابي يتحول إلى "مدرب إذعان" فهو يدرب أتباعه على تلقي كل ما يقوله كحقيقة دينية مطلقة ويطلب منهم الإذعان الكامل. فلا يحق لهم الاعتراض أو حتى التفكير المستقل وهو يرسخ في أذهانهم أنهم غير مؤهلين لمناقشته لأنهم جاهلون بالدين.
المشكلة أن المواطن المذعن دينيا سرعان ما يكون مذعنا سياسيا أيضا. إذا كنت تؤمن أن الدين يأمرك بالإذعان لشيخك فسوف تؤمن بسهولة أن واجبك الوطنى يحتم عليك الإذعان للديكتاتور. إذا كنت خاضعا لشيخك لأنه أدرى منك بشئون الدين سيكون من السهل أن تخضع للزعيم لأنه أدرى منك بشئون الوطن. إذا كنت تعتبر المعترض على شيخك عدوا للدين، سوف تعتبر كل من يعارض الزعيم عدوا للوطن، وإذا كان الشيخ في نظرك يمثل الدين فإن الزعيم يمثل الوطن. وإذا كنت تعتبر أن سؤالك للشيخ عن مصدر ثروته تطاول على مقامه الرفيع، فسوف تؤمن أيضا أن محاسبة الرئيس على ذمته المالية ستكون تجاوزا وإساءة للأدب في حق الرئيس.
هل نحتاج إلى رجال الدين؟
إذا كنا سنحتفظ بحقنا في نقد أفكار رجل الدين وسنحاسبه على تصرفاته ومصادر ثروته، وإذا كانت مهمة رجل الدين الأولى ستكون الدفاع عن الحق وإدانة الفساد والقمع. إذا كان رجل الدين سيقول كلمة الحق في وجه السلطان الجائر، فما أحوجنا إليه لأنه سيقود الناس في معركة الحق والحرية. أما رجل الدين الذى يشبه هؤلاء الدعاة الوهابيين، فنحن لا نحتاج إليه لأنه أداة تضليل وظلم وعبء على الناس وعلى الدين نفسه.
الديمقراطية هي الحل
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي مؤسسة DW.