شامة درشول: زيرو "أمان"...
١٠ نوفمبر ٢٠١٦أمان أو لامان... مهما كان نطق الكلمة على طريقة أمازيغ المغرب إلا أن معناه يبقى واحداً هو الماء.
يستضيف المغرب بلدان العالم في أكبر مؤتمر للحديث عن تغير المناخ، وبواحدة من أكثر مدن المغرب جاذبية تستقبل مراكش قادة العالم للحديث عما سيصبح القضية الأولى في العالم قريباً. لكن غير بعيد عن هذه المدينة الساحرة، يعيش شعب منسي بالجزء الآخر من المغرب المنسي مأساة تكاد تصبح يومية، تبدأ صباحاً ولا تنتهي إلا مساء، فكل رجال الدوار يخرجون بحثاً عن ماء يروي ظمأهم، وعطش دوابهم.
مطلع هذا العام، عملت على موضوع حول توثيق الحياة الأمازيغية في المغرب، كنت والسائق في طريقنا إلى ورزازات حين طلبت منه أن ننتقي صدفة واحداً من الدواوير المجاورة، فوقع انتقاؤنا العشوائي على "دوار تمنيت".
أوقف السائق السيارة أمام باب مسجد يقارب بضع منازل بنيت من طين، ترجلت من السيارة وطلبت منه الانتظار، خطوت بضع خطوات أحاول أن أجد شخصاً من الدوار أتحدث إليه، لم تدم إلا بضع دقائق حتى استجاب القدر إلى أمنيتي، إذ مر بجواري طفل صغير يلعب وخلفه كان رجل يمشي بخطوات مسرعة، ولم يستوقفه سوى منظري الذي بدا له غريباً بسروالي الجينز وشعري الذي بدون غطاء. توقف الرجل ألقى علي التحية بالأمازيغية، وحين انتبه أني لا أفقه فيها كلمة تحدث إلي بالدارجة وسألني عما أبحث، أجبته أني هنا لتوثيق يوم من أيام سكان هذا الدوار، فكان رده: "تعالي معي... أنا ذاهب للبحث عن الماء".
كان الرجل يحمل على كتفه معولاً، مشيت بجواره محاولة أن أجاري خطواته السريعة، كان صامتاً، فآزرته بالصمت. مررنا بجوار رجال بدوا في منتصف عقدهم الرابع، ألقى عليهم التحية، تبادلوا الحديث بالأمازيغية، ثم واصلوا طريقهم جميعاً. قال لي الرجل والذي قدم نفسه على أن اسمه "حسين"، إنه بالأمس أذن فيهم فقيه المسجد، وقال لهم إن كل من بلغ سن الصوم عليه أن يلتحق صباح اليوم بـ"مكان العين".
يصمت الرجل قليلاً وكأنه يلتقط أنفاسه، وكأن ما يحمله صدره من هموم يفوق ثقلاً من ذاك المعول فوق كتفه، ثم يقول: "إننا نموت عطشاً... الجفاف ضرب المنطقة هذه السنة أيضاً، كل مرة نحفر بحثاً عن عين ماء، وتمر أيام قليلة تمطر فيها السماء فيختفي مكان العين، وحين تجف الأرض من أمطار السماء نضطر مرة أخرى للخروج والحفر بحثاً عن مكان العين".
نصل إلى مكان يقول لي الرجل إنه المكان الذي يفترض أن يلتقي فيه رجال الدوار، حوالي ستون رجلاً من مختلف الأعمار، أطفال، شباب، وشيوخ، يجلسون على الأرض منتظرين من أخبرني "حسين" أنه "مول لقصبة" ويعني هذا "صاحب القصبة" المكلف باستعمال قصبة في تحديد وتوزيع الأمتار التي يجب حفرها على كل واحد منهم.
حضر "صاحب القصبة"، بدا نحيلاً في سرواله البني وقميصه الأزرق، يحمل قصبة طويلة، ويسروع الخطى، توقف حيث كان يجلس رجال الدوار، تحدث اليهم قليلا ثم بدأوا يرددون أهازيج أمازيغية وختموها بالصلاة على محمد، ثم قاموا يحضرون تقسيم الأمتار عليهم.
تعالت الأصوات كل يحاول اقناع مول القصبة أن المكان المحدد للحفر ليس بالملائم، وأصوات أخرى تحتج أن اليوم سيضيع في البحث تحت شمس يناير / كانون الثاني حارة. كان "صاحب القصبة" يحاول إرضاء الجميع قبل ان يبدأ صوته بدوره يعلو إلى أن تدخل شخص آخر وقال لهم بالدارجة المغربية: "دعونا نسمع بعضنا البعض حتى في البرلمان يختلفون لكن يسمعون لبعضهم البعض".
أقف غير بعيدة عن الرجال وهم يبدأون الحفر، يأتي إلى حسين يسألني إن كنت في حاجة لشيء، لم يمنع انشغال رجال الدوار بالحفر من أجل رشفة ماء من الالتزام بواجب الضيافة، أخبرني حسين أن الكل مجبر على القدوم من أجل الحفر ومن تخلف عن موعد يضطر لدفع تعويض مادي لا يتعدى خمسين درهما لكن بالنسبة لسكان هذا الدوار الفقير هذا المبلغ يساوي الشيء الكثير. يخبرني حسين أيضاً أن من لم يستطع الحضور يبعث بأطفاله، أو يستأجر شخصاً للحفر بدلاً عنه، المهم أن كل رجال الدوار عليهم أن يشاركوا في "الحفر المقدس" بحثاً عن قطرة تحمي عروقهم من الموت عطشاً.
"السياسيون مجرد كاذبون"، يقول لي "صاحب القصبة"، ويواصل "لا نثق فيهم، نروهم هنا فقط أيام الانتخابات وبعدها يختفون، طلبنا منهم مراراً أن يمدونا ببعض الاسمنت والحجر لإيجاد طريق تمر منه مياه المنبع قبل أن تجف، لكنهم لم ينصتوا إلينا، لذلك نحن نعتمد على انفسنا، وهمنا كل يوم هو إيجاد قطرة ماء نقاوم بها تهديد الجفاف لنا بالموت".
كان "صاحب القصبة" يتحدث إلي حين سمعت جلبة، التفت فوجدت الرجال وقد حملوا شخصاً وهرعوا به تحت ظل شجرة. هذه هي المستشفى الوحيد الذي يملكه هؤلاء في هذا المكان القاسي، شجرة يتظلل بها رجل أُغمي عليه من فرط الحفر تحت أشعة شمس لا يجب أن تأتي في هذا الموعد.
سمعت السائق ينادي علي أن حان وقت الرحيل، تقدم إلي "حسين" و"صاحب القصبة" يسلمان علي، سألتهما إن كان هذا الوضع لا يجعلهم يحسون بالغبن، وبأن تطورهم معرقل بسبب المياه؟ أجابني "صاحب القصبة" أن الحياة في الدوار صعبة بسبب "زيرو لامان"، لكنهم يقاومون بحثهم عن "لامان" بـ"الصبر والإيمان".
الصبر والإيمان، هل هذه ستكون من بين الحلول التي سيعتمدها مؤتمر كوب 22 المنعقد حالياً في مراكش؟ لا أعتقد، لكني أتساءل دوماً إن كان المجتمع المدني قد قصر كثيراً في حق "حسين" و"صاحب القصبة" وباقي رجال دوار تنميت وأشباهه في ذاك المغرب المنسي، قصر، حتى أطلق حملة "زيرو ميكا"، عوض أن ينصف حسين وأصحابه ويطلق حملة ضد "زيرو أمان"؟