دراسات التراث العالمي في كوتبوس- فهم الذات وفهم الآخر
١٢ يوليو ٢٠١٣حين قرر المسؤولون في جامعة كوتبوس عام 1999 إنشاء تخصص جامعي جديد أُطلق عليه "دراسات التراث العالمي"، قُوبلَ قرارهم بنوع من التهكم والسخرية. لكن بعد مرور 14 عاماً على إنشاء ذلك التخصص أصبح يجتذب الطلاب من مختلف أنحاء العالم لمتابعة دراستهم فيه. ويندرج هذا التخصص ضمن 11 تخصص آخر، تركز على المواضيع التي تدعمها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو).
صيانة التعدد والتنوع الثقافي العالمي
في الوقت الذي يقضي فيه الأساتذة والطلبة عطلتهم الصيفية، تنشغل ماري تيريزه ألبرت في مكتبها الصغير بالجامعة بالتحضير للجامعة الصيفية، التي سيحضرها مشاركون من مختلف دول العالم، كالطالب الصيني مينغ الذي وضع للتو رسالة الدكتوراه على مكتب ألبرت. في أطروحته وقف مينغ على دلالات الرقص الهندي في جمهورية سنغافورة، وهو موضوع قد يبدو غريباً على الجامعات الأخرى، لكن أساتذة التخصص الجديد في كوتبوس ينشغلون بمثل هذه المواضيع. وتصف ألبرت ذلك والفرح يبدو على محياها، بالقول: "إنها مواضيع روتينية عندنا". فهي تستمتع بالمواضيع ذات الصبغة العالمية التي تتم دراستها في التخصص، الذي تُشرف عليه والتي لا نجدها في جامعات أخرى.
إلى جانب طالب الدكتوراه الصيني مينغ يُتابع في 13 طالب دكتوراه و113 طالب ماجستير دراستهم في تخصص "دراسات التراث العالمي". ومن بين المواضيع التي تشغلُهم: طرق وآليات الحفاظ على التراث الإنساني العالمي، وهو الإطار الذي يدخل فيه موضوع الطالب مينغ، الذي يقول موضحاً: "الراقص لا يمثل ثقافَتَهُ الخاصة فقط". مينغ يعرف جيداً ما يقول لأنه كان راقصاً في سنغافورة قبل أن يلتحق بجامعة كوتبوس لمتابعة دراسته فيها. يُضيف مينغ: "عبر الرقص يتم كسر الحدود الثقافية والوطنية والفروق الجنسية. وما يبقى هو الإنسان".
منافسة كبيرة
يبدو السفر من جمهورية سنغافورة إلى مدينة كوتبوس الصغيرة للحظة الأولى غير مألوف، لكن التخصص الجديد كسر تلك النظرة. ومنذ تولي ماري تيريزه ألبرت عام 2003 مسؤولية الإشراف على هذا التخصص، قامت بجهود كبيرة للظفر بوسام منظمة اليونسكو.
في هذا الصدد تقول ألبرت: "يجب أن يتمتع المرء بإمكانيات مالية لإنشاء كرسي جامعي خاص باليونسكو". وتسترسل المشرفة على هذا الفرع الدراسي قائلةً: "على المرء أن تكون لديه موارد مالية أخرى غير تلك التي تدفعها المؤسسات الحكومية، وأيضاً إطلاق مشاريع علمية عديدة". ومن الأشياء التي جعلت ألبرت تستمرُ في نضالها من أجل نجاح هذا التخصص هو التعدد والغنى الثقافي الذي يعرفه العالم. وتعتقد ألبرت أن هذا التعدد يجعلنا في "حاجة إلى دليل علمي يساعد على توجيه الناس"، وهو ما يمكن تحقيقه بشكل أفضل عبر دراسة التراث.
تخصص يُقتدى به
تُدرك الأستاذة ألبرت قيمة العمل الجيد الذي قامت به من أجل تخصص "دراسات التراث العالمي" في جامعتها، خصوصاً وأن الأمر كان يتعلق بإحداث تخصص جديد في مجال العلوم الإنسانية داخل جامعة تقنية، وتروي الأستاذة أنها سُئلت عدة مرات عن جدوى مشروعها "عديم الجدوى"، على حد تعبير السائلين المتشككين في البدء.
حالياً، أصبح التخصص الجديد نموذجاً يُحتدى به، إذ يتم تدريس العديد من المواضيع كالهندسة المعمارية وحماية الآثار. ومن بين الدروس التي تشهد الإقبال أيضاً مواضيع البيئة، وتخطيط المدن وأيضاً المعارف التقنية في مجال الهندسة المعمارية، ويتم التدريس باللغة الإنجليزية.
هذه الدروس المتعددة التي تُلقى في هذا التخصص أدخلت جامعة كوتبوس إلى إطار العالمية. عن ذلك تقول الأستاذة ماري تيريزه ألبرت: "أينما حَلَلْت يقول لي الناس دائماً: أنت من كوتبوس". وحسب الأستاذة الألمانية فإن جامعة كوتبوس كانت أول جامعة تُطلق برنامج الماجستير في مجال التراث الإنساني العالمي وكانت أيضاً أول جامعة تُطلق برنامج الدكتوراه في هذا التخصص.
طلاب بثقافات متنوعة
الدروس المتنوعة والمهمة التي تُلقى في تخصص "دراسات التراث العالمي" جعلت جامعة كوتبوس مركز الريادة، ما يجعل حظوظ خريجيها جيدة للحصول على وظائف في مختلف أنحاء العالم. وتقول ألبرت متحدثة عن طلابها: "كل طالب يأتي إلينا له قدرات تعليمية مختلفة ويحمل معه ثقافته أيضاً". وتضيف بالقول: "عندما يعمل عشرة طلاب من عشر دول مختلفة معاً في الفصل فهذا يولد نوعاً من المثاقفة بينهم، وهذا يعفيني من شرح فلسفة وأهمية هذا الكرسي الجامعي الذي أشرف عليه".
من بين الطلاب الألمان القلائل الذين يتابعون دراستهم في هذا التخصص الطالب آيكه شميدت البالغ من العمر 26 عاماً. وسبق لشميدت أن أنهى دراسات البكالويوس مستوفياً بذلك شرط الالتحاق بشعبة الماجستير في "دراسات التراث العالمي" بجامعة كوتبوس. ويستمتع الطالب الألماني بالتبادل العلمي مع الطلبة الآخرين القادمين من بلدان مختلفة. فالبلد الأصل للطلاب ليس موضوعاً يطرح للنقاش في هذه الجامعةّ، على الأقل عندما يتعلق الأمر بالمعارف العلمية المتخصصة.
يقول شميدت في هذا الصدد: "خلافاً لطريقة البحث التي ينهجها باحث أمريكي مثلاً، فالطريقة التي أبحث بها هنا نادرة ومشوقة". ويدرس شميدت برفقة طلاب من ثلاثين بلداً، ويعتبر هذا "إثراء كبيراً" للجامعة وللطلبة.
يُركز التكوين الجامعي في هذا التخصص على تعلم طرق الفهم. ولا يُنظر للتعدد الثقافي كتهديد بل كفرصة لفهم الأنا والآخر في زمن العولمة. وفي هذا السياق تقول ماري تيريزه ألبرت متسائلةً: "كيف يمكن للمرء فهم عالم مُعولم الثقافة إذا لم يفعل ذلك عبر التعدد الثقافي والاحترام تُجاه الغرباء المفترضين؟". وتدخل ماري تيريزه مع طلابها في نقاشات علمية حول التعدد الثقافي وتعتبر "الموروثَ الإنساني وسيلة للإثراء" و"الإثراء هو التعددية" وهذا ما تسعى لإيصاله لطلابها كما تقول.