خسارة "داعش" للرقة خبر سار لا يبعث على التفاؤل
١٩ أكتوبر ٢٠١٧نصر رمزي كبير، لكن ثمنه باهظ، فالمقاتلون الأكراد رفعوا بانتشاء كبير أعلامهم في مدينة يغطيها الخراب والأنقاض، وفرَّ منها تقريباً كافة سكانها الثلاثمائة ألف. بالإضافة إلى حصيلة ثقيلة في الأرواح تجاوزت 3000 قتيل، ثلثهم على الأقل من المدنيين، قُتلوا في ضربات التحالف الجوية.
وحتى إذا كانت أيام تنظيم "داعش" معدودة، إلا أن خسارة الرقة لا تمثل بالنسبة له الهزيمة النهائية. فالمدينة مطوقة كلياً من قبل أكراد قوات سوريا الديمقراطية منذ حزيران/ يونيو الماضي، لكن ذلك لم يمنع التنظيم من سحب المئات من مقاتليه ومعظم أسلحته الثقيلة إلى دير الزور التي تقع إلى الجنوب الشرقي على ضفة الفرات، وذلك تحت مرأى الأكراد وطيران التحالف!
إعلان النصر نفسه لم يأت إلا بعد السماح لعشرات الـ"دواعش" بمغادرة الرقة مع ذويهم في أمان والوجهة دائماً هي دير الزور. فكيف يمكن حدوث ذلك رغم تأكيدات الجميع على استحالة التفاوض مع هذا التنظيم بأي حال من الأحوال، وعلى أن الهدف هو القضاء عليه بالكامل؟
عدو عدوي...
ليس بالضرورة صديقي. قد تكون هذه هي القاعدة المعتمدة في حرب يقاتل فيها الكل ضد الكل وهي سبب بقاء "داعش" إلى يومنا هذا. فكل التحالفات في الحرب السورية في حاجة له كورقة استراتيجية ولا تتردد في استعماله كـ"جوكر" ضد منافسيها. وفي الحالة التي أمامنا، يسعى التحالف بقيادة الولايات المتحدة لكبح التقدم السريع للجيش النظامي السوري المدعوم من روسيا في منطقة دير الزور الغنية بالنفط حتى يتيح لحلفائه الأكراد الحصول على أكبر جزء ممكن من الكعكة.
لعبة "داعش" هذه بدأها في الأساس النظام السوري. فبعد أشهر قليلة من انطلاق الاحتجاجات في 2011، وفي الوقت الذي بدأ يزج فيه بالمتظاهرين السلميين في سجونه ويمارس في حقهم التعذيب والقتل، أُطلق سراح آلاف المعتقلين الإسلاميين الذين سرعان ما انضموا إلى ميليشيات انضوت في 2013 تحت لواء "داعش".
توسع التنظيم في الأشهر التالية جاء في معظمه على حساب مناطق المعارضة المعتدلة، كما حصل في الرقة مطلع 2014 التي كان الجيش الحر قد انتزعها من الجيش النظامي قبل ذلك بعشرة أشهر. أما النظام، فيبدو وكأنه أبرم مع "داعش" معاهدة عدم اعتداء عادت بالمنفعة على الجانبين: ففي حين سمحت لـ"داعش" في غضون أشهر قليلة بالسيطرة على مناطق واسعة على طرفي الحدود السورية العراقية مع الرقة والموصل كأهم مراكز حضرية، استغل النظام هدوء هذه الجبهة لدحر المعارضة المعتدلة وتعزيز شرعيته الدولية عبر الادعاء بأنه البديل الوحيد لحكم إسلامي متطرف ودموي.
صعود الأكراد
الأكراد استفادوا بدورهم من ظهور "داعش". صحيح أن موقع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، وهو أهم حزب كردي سوري، تحسن كثيراً قبل ذلك عندما تحولت الاحتجاجات إلى نزاع مسلح وسحب النظام قواته من المناطق الكردية الهادئة في الشمال تاركاً إياها لحكم ذاتي كردي غير معلن رسمياً. وهو ما يعتبر نقلة نوعية غير مسبوقة بالنسبة للأكراد الذين كانوا يعانون من تمييز ممنهج ضدهم وقمع لمطالبهم الثقافية وحرمان عشرات الآلاف منهم حتى من حق المواطنة.
لكن التهديد الأكبر ضدهم بقي لغاية 2014: فإلى جانب الجارة الشمالية تركيا، كان كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية وعدد من الدول الغربية الأخرى يعتبرون الحزب امتداداً لحزب العمال الكردستاني التركي المصنف لديها مجموعة إرهابية. هذا التهديد زال دفعة واحدة أثناء دفاع وحدات حماية الشعب الكردية، وهي الذراع المسلح لحزب الاتحاد الديمقراطي، عن مدينة عين العرب كوباني وصدها لهجوم "داعش" على المدينة الحدودية مع تركيا. فمنذ ذلك الحين أصبح الحزب مقبولاً في العواصم الغربية واختارت واشنطن ذراعه المسلح ليكون حليفها الأساسي في الحرب السورية، مما عاد عليه بتدريبات عسكرية وأسلحة متطورة مجانية، بالإضافة لغطاء جوي من قبل أقوى سلاح جو في العالم.
وهكذا تأتى لوحدات حماية الشعب دحر "داعش" بسرعة كبيرة والاستيلاء على مناطق تسكنها غالبية ليست كردية. إنجاز سيعزز طموح الأكراد في توحيد مناطقهم غير المتصلة في شمال سوريا وضمها في يوم ما، كجزء غربي، إلى دولة كردستان الكبرى. فكلمة "روجافا" التي يطلقها الأكراد على مناطق سيطرتهم شمال سوريا تعني "الغرب" بالكردية.
تحرك الأكراد هذا لم يلبث أن جلب عليهم اتهامات تصل إلى درجة ارتكاب عمليات تطهير عرقي في حق سكان المنطقة العرب. ففي بيان لها في تشرين الأول/ أكتوبر 2015 اتهمت منظمة العفو الدولية وحدات حماية الشعب بتهجير السكان العرب من بعض القرى التي انتزعتها من داعش وحرمان لاجئين عرب أيضاً من العودة إلى منازلهم وصنفت هذه الممارسات كجرائم حرب.
كركوك الشام؟
وفي مسعى لإصلاح الأضرار التي لحقت سمعة مقاتلي وحدات حماية الشعب، تم إلحاقهم رسمياً بقوات سوريا الديمقراطية التي أنشئت في الشهر ذاته وتُعَرف في الإعلام عادة بأنها تحالف كردي عربي ضد "داعش"، مع أن المهيمن عليها بنسبة تقدر بنحو 90 بالمائة هم الأكراد.
ولهذا السبب تواجَه سيطرة قوات سوريا الديمقراطية على المناطق غير الكردية التي استولت عليها في العامين الماضيين بالرفض، سواء من قبل السكان المحليين أو القوى الإقليمية وعلى رأسها تركيا. كما أن المجلس المدني الذي أعلنت القوات نيتها تعيينه من أجل تسليمه إدارة الرقة لن يحظى بقبول كبير.
لذلك سينتهي أكراد سوريا إلى نفس مصير إخوانهم في العراق الذين اضطروا مؤخراً لتسليم كركوك الغنية بالنفط تحت تهديد سلاح الحكومة المركزية في بغداد، بعد أن كانوا قد انتزعوها أيضاً من تنظيم "داعش" بعد تضحيات كبيرة.
وفي الوقت الذي يشعر فيه أكراد العراق بالخذلان من حلفائهم الغربيين، ليس أمام أكراد سوريا سوى مقايضة انتصاراتهم على الأرض بمكاسب سياسية. وفي هذا الصدد يمكن فهم توقيت تصريح وزير الخارجية السوري وليد المعلم، نهاية أيلول/ سبتمبر الماضي، بأن مسألة منح الأكراد السوريين حكماً ذاتياً باتت مطروحة للنقاش. وهو أمر لم يكن حتى الماضي القريب وارداً بالنسبة لدمشق. لكن الأكراد يدركون جيداً منذ قرن بأن الاتفاقات في هذه المنطقة، حتى تلك التي تعقد مع القوى العظمى، قد يُعصف بها في أي وقت.
بالتالي يبقى السؤال: هل ستوافق الولايات المتحدة الأمريكية على اتفاق من هذا القبيل، والأهم من ذلك هل ستكون مستعدة لضمانه في السنوات المقبلة؟
بشير عمرون