خبراء ألمان يرسمون آفاق حلٍ لمعضلة سد النهضة
٢٤ يونيو ٢٠٢٠لفهم الغضب المصري من الطموحات الإثيوبية..
آلية مصرية لتعويض إثيوبيا بمشاركة أوروبية؟
الخيار العسكري ـ مخاطر مواجهة "عبثية"
من خيارات الحل ـ مرجعية القانون الدولي!
تغير موازين القوى بين القاهرة وأديس أبابا
لفهم الغضب المصري من الطموحات الإثيوبية..
مشروع يحمل اسماً واعداً: "سد النهضة العظيم"، شيد على الروافد الإثيوبية العليا للنيل الأزرق بالقرب من الحدود السودانية. على مدى السنوات التي استغرقها بناء المشروع، كان غضب القاهرة من أديس أبابا، يغلي على نار غير هادئة. فعلى النقيض من مشاريع سدود الري العادية، فإن السعة المائية الهائلة وحجم البناء العملاق جعلت من "النهضة" أكبر سدود إفريقيا على الإطلاق. النتيجة حوار طرشان بين مصر وإثيوبيا، يكررُ فيه كل طرف مواقفه دون ملل. فما ترى فيه أثيوبيا حقا مشروعاً ومفخرة قومية لإنجاز إقلاعها الاقتصادي، ترى فيه مصر تهديداً لوجودها ولأمنها القومي. أو ليست "مصر هبة النيل" كما كتب هيرودوت قبل 2400 عام، ثلاث كلمات لخص فيها المؤرخ الإغريقي حقيقة عابرة للعصور. فوجود بلد الفراعنة مرتبط وجودياً ووجدانياً بهذا النهر، ولولاه لتحولت إلى صحراء قاحلة بلا حياة. فالنيل يشكل 95% من مصادر المياه العذبة في البلاد.
لكن الاكتفاء بسرد هذه الوقائع، يُشبه الوقوف في منتصف الطريق على شاكلة "ويل للمصلين". جذور المعضلة الحالية تمتد إلى الماضي الاستعماري، حينما أقصيت أثيوبيا من كل المعاهدات ذات الصلة بتوزيع مياه النيل، منها معاهدة عام 1929 التي أشرفت عليها بريطانيا كقوة استعمارية، وأعطت مصر عملياً حق الفيتو ضد أي مشاريع بنية تحتية تمس منابع النيل والمناطق العليا منه. إضافة إلى اتفاقية أخرى مع السودان عام 1959، قسمت موارد مياه النيل بين البلدين بشكل يضمن لمصر 55.5 مليار متر مكعب سنويا و18.5 مليار متر مكعب للسودان. اتفاقية تم التفاوض عليها بدون إثيوبيا. وبين الموقفين المصري والأثيوبي هوة يمكن ردمها، إذا ما تحلى كل طرف بالشجاعة وقدم التنازلات اللازمة مراعاةً لمصالح الطرف الآخر. فأهمية سد النهضة لإثيوبيا يمكن مقارنتها بسد أسوان لمصر.
الخلاف الحالي يدور في المقام الأول حول الإطار الزمني الذي يجب أن يملأ فيه السد. ففيما تضغط الحكومة المصرية من أجل ملء بطيء يمتد بين 12 و21 سنة لتجنب الاختناقات الرئيسية في إمدادات المياه، تسعى الحكومة الإثيوبية لتحقيق ذلك في غضون ست سنوات حتى تتمكن من تشغيل التوربينات لتوليد الطاقة بشكل أسرع. أما السودان، فيشارك في المفاوضات بموقف محايد إلى حد كبير، وإن كان يدعم مصر من الناحية الاستراتيجية.
آلية مصرية لتعويض إثيوبيا بمشاركة أوروبية؟
في (13 مارس / آذار 2020)، نشر ثلاثة باحثين فكرة قدموها في مقال مشترك نشرته مؤسسة العلوم والسياسة الألمانية في برلين SWP وهم الدكتور شتيفان رول، رئيس مجموعة أبحاث الشرق الأوسط وإفريقيا ومساعده لوكا ميهي بالتعاون مع توبياس فون لوسو الباحث في المعهد الهولندي للعلاقات الدولية. والهدف هو تجاوز مأزق المفاوضات المصرية الأثيوبية. ودعا الباحثون ألمانيا وشركاءها الأوروبيين إلى دعم مصر من أجل إنشاء آلية تعويض، معتبرين أن الحل "يمر عبر تعويض مالي مصري لإثيوبيا"، كخطوة من شأنها "تعزيز الاستقرار في منطقة ممزقة أصلا بالصراعات وبالتالي التخفيف من ضغط الهجرة على أوروبا" كما يرى الباحثون الثلاثة، الذين أكدوا في الوقت ذاته أن أي مساهمة مالية أوروبية يجب ربطها بضرورة التزام القاهرة بترشيد إدارة المياه والحكامة بشكل عام. وليس من المؤكد أن تجد دعوة كهذه، آذانا صاغية في برلين أو بروكسل، خصوصا وأن الاتحاد الأوروبي تميز بحضور باهت وخطوات مترددة في هذه الأزمة، بل وتوارى، مرة أخرى، أمام مبادرة الوساطة الأمريكية التي فشلت في التقريب بين وجهات نظر القاهرة وأديس أبابا.
من جهته، دعا دافيد فولد غيورغيس من المعهد الدولي للأمن بأديس أبابا في حوار مع DW القوى الدولية الفاعلة لحلحلة المفاوضات، مؤكداً أنه "لا يجب ترك البلدين (مصر وإثيوبيا) في الوضع الراهن لحالهما، وإلا سيكون لذلك عواقب على الاستقرار الأمني في المنطقة وأفريقيا ككل". غيورغيس لم يستبعد سيناريو المواجهة العسكرية. غير أن فشل جهود الوساطة الأمريكية أظهر أن الخلاف وصل طريقاً مسدوداً. ويرى باحثو مؤسسة العلوم والسياسة أنه "حتى الآن، لم تنجح جهود ممارسة الضغط على إثيوبيا من خلال تعبئة الدول الحليفة (لمصر). وترتبط الولايات المتحدة والأوروبيون، وكذلك دول الخليج وجمهورية الصين الشعبية بعلاقات جيدة مع البلدين، من الواضح أنهم غير مستعدين للانحياز إلى أي من أطراف الصراع". وترى "مؤسسة السياسة والعلوم" أن على الأوروبيين تقديم مبادرة تعترف بشكل أساسي بدور إثيوبيا وحقوقها. ولكن أيضا الأخذ بعين الاعتبار العواقب السلبية على مصر.
الخيار العسكري ـ مخاطر مواجهة "عبثية"
مارتين غيلين، من صحيفة "فرانكفورتر روندشاو" (الثالث من مايو/ أيار 2020) كتب محللاً التداعيات المحتملة لسد النهضة وقال "حتى المواجهة العسكرية لم تعد مستبعدة تماما، فقد أجرى الجيش الإثيوبي مناورات بالقرب من سد النهضة، بثها التلفزيون الحكومي، فيما أجرى جنرالات مصر محادثات مع إريتريا حول إقامة قاعدة بحرية هناك". أما السودان فيجد نفسه في موقف هش بين هذه الجبهات يقول غيلين، وسط انقسام قيادات ما بعد الثورة حول قضية مياه النيل. إذ "يميل رئيس الوزراء عبد الله حمدوك (..) إلى الجانب الإثيوبي لأنه عاش في أديس أبابا لفترة طويلة، ويقال إنه على علاقة وثيقة مع رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد (..) من جهة أخرى، تميل قيادة أركان الجيش السوداني بحزم إلى مصر ورئيسها السيسي لاعتبارات استراتيجية".
الصراع من أجل مياه النيل ليس وليد اليوم، لنتذكر ما قاله الرئيس المصري السابق حسني مبارك بشأن أي "عبث إثيوبي بمياه النيل"، حين قال إن ذلك "سيدفع بلادنا إلى المواجهة دفاعاً عن حقوقنا وحياتنا". وذهب خليفته محمد مرسي في نفس الاتجاه حين قال "نحن لا نريد الحرب، لكن كل الخيارات تبقى مفتوحة". وكان رد رئيس الوزراء الإثيوبي آنذاك ميليس زيناوي "إذا كانت مصر تريد منع إثيوبيا من استخدام مياه النيل، فعليها أن تحتل بلدنا، وهذا ما لم تفعله في الماضي أي دولة على وجه الأرض". أما النخبة السياسية الأثيوبية الحالية فتردد شعار "لا أحد ولا شيء" سيوقف بناء السد سواء في الداخل أو في الخارج. غير أن التلويح بالخيار العسكري لن يتجاوز الجبهة الإعلامية على الأرجح. فلا بديل عن توافق سياسي متفاوض عليه.
من خيارات الحل ـ مرجعية القانون الدولي!
في أطروحتها لنيل شهادة الدكتوراه، درست فلين ويلينغ الجوانب القانونية لاستخدام المصادر المائية العابرة للحدود من خلال نموذج نهر النيل، وذلك في معهد ماكس بلانك الألماني للقانون العام المقارن والقانون الدولي. وأجرى موقع "جمعية معهد بلانك" مقابلة مع ويلينغ بشأن الخلفيات القانونية للنزاع بين مصر وإثيوبيا نُشرت يوم (21 مارس/ آذار 2020). وبهذا الشأن أكدت ويلينغ أنه "يحق لجميع البلدان التي يمر منها النيل الأزرق استخدام مياهه. يحق لإثيوبيا إنشاء سد النهضة على النيل الأزرق وتوليد الطاقة الكهرومائية منه ولكن بطريقة تمكن مصر والسودان أيضًا من استخدام مياه النيل بشكل مناسب".
وتعتبر ويلينغ أن من "حلول الوسط" الممكنة أن يتم ملء السد تدريجيًا في موسم الأمطار، مع أخذ التداعيات على السكان في مصب النهر بعين الاعتبار. بعد ذلك، "يمكن تشغيل السد على المدى الطويل وفقًا لآلية تأخذ في الاعتبار احتياجات توليد الطاقة وتدابير الحماية المناسبة لمصر والسودان خلال فترات الجفاف".
وحتى في غياب معاهدة تجمع البلدان الثلاثة (مصر، السودان وإثيوبيا) هناك معاهدة دولية دخلت حيز التنفيذ عام 2014، وهي اتفاقية حق استخدام المجاري المائية الدولية التي أشرفت عليها الأمم المتحدة. وتتضمن العديد من مبادئ القانون الدولي من حيث استخدام المجاري المائية عبر الحدود. ومنذ ذلك الحين وقعت دول حول العالم أكثر من 2000 من هذه الاتفاقيات استنادا لمرجعية القانون الدولي. وتسعى مصر تضمين أي اتفاق مع أديس أبابا أكبر قدر ممكن من التفاصيل تغطي جميع الاحتمالات الممكنة في المستقبل، فيما تحاول إثيوبيا إبقاء الاتفاقية مفتوحة قدر الإمكان وعدم التوقيع على أي بند من شأنه أن يُلزم بحد أدنى من المياه لجيرانه، نظرًا للتقلبات المتعلقة بالتغيير المناخي الذي قد يفسد الحسابات المستقبيلية. وعلى عكس مصر، فإن السودان لا ترى في خفض حجم مياه النيل التي تصله مشكلة كبيرة، بل إن بناء سد النهضة قد ينظم في المستقبل مشكل الفيضانات العشوائية، إضافة إلى إمكانية الحصول على طاقة كهربائية رخيصة من إثيوبيا.
تغير موازين القوى بين مصر وإثيوبيا
بدأت إثيوبيا في التخطيط لإنشاء سد النهضة في مطلع تسعينيات القرن العشرين، في وقت فشلت فيه القاهرة طيلة فترات الإنجاز من تغيير مسار بناء المشروع الذي أصبح اليوم أمراً واقعاً لا خيار أمامها سوى التعامل معه ببراغماتية. وحتى "مبادرة حوض النيل" التي تم إطلاقها عام 1999 وبدعم كبير من الدول الأوروبية، لم تكن ناجعة للغاية. هدف المبادرة كان الدفع بجميع الدول المعنية للجلوس لطاولة المفاوضات غير أن القضايا السياسية والقانونية بشأن توزيع المياه واستخدامها ظلت عالقة.
حوالي 86 في المائة من مياه النيل التي تصل لسد أسوان تأتي من المرتفعات الإثيوبية. ومع ذلك، لم تتمكن إثيوبيا حتى الآن من الاستفادة من موقعها الجيوستراتيجي. في الماضي، أدى نقص التمويل والوضع السياسي غير المستقر إلى منع التوسع في البنية التحتية وهو ما تغير اليوم. يشكل سد النهضة مصدر شعور بالفخر الوطني لدى الإثيوبيين الذين شاركوا فيه بشراء سنداته. إثيوبيا واحد من أفقر البلدان في القارة الإفريقية وتعلق آمال اقتصادية كبيرة على السد في وقت يعاني فيه نصف السكان من الفقر المدقع، ناهيك عن التوترات العرقية والسياسية. وبهذا الصدد أجرت صحيفة "تاغسشبيغل" (10 يونيو/ حزيران 2020) حوارا مع داويت يوهانس، الباحث في المعهد الأفريقي للدراسات الأمنية في أديس أبابا، الذي أوضح أن مصر "تطالب بحقها التاريخي في نهر النيل، مستندة في ذلك إلى معاهداتي 1929 و1959 ومعتبرة الأمر قضية أمن قومي"، غير أن الاكتفاء بهذه الحجة لم يعد كافياً لاستمرار الوضع على ما هو عليه. وذهب باحثو مؤسسة العلوم والسياسة في نفس الاتجاه معتبرين أن بناء سد النهضة "غيًر علاقة القوة بين دول النيل. ولم يعد التمسك بالمعاهدات القديمة يوفر الحماية لمصر (..). إن التهديدات المتكررة من القاهرة بوقف بناء السد بالوسائل العسكرية، غير واقعية إلى حد كبير ليس فقط بسبب المسافة بين البلدين".
حسن زنيند