علاء الأسواني: من إدارة المخابز إلى سد النهضة
١٠ مارس ٢٠٢٠كان الدكتور حسين مؤنس ( 1911-1996) أحد كبار المثقفين في عصره وقد حصل على درجة الدكتوراه في الآداب من جامعة زيورخ، وكان يتقن لغات عديدة وقد عمل ملحقا ثقافيا في السفارة المصرية في مدريد. كان ذلك في فترة الستينيات عندما صدرت قرارات التأميم وتمت الاستعانة بالضباط لإدارة الشركات التي انتزعت من أصحابها.
وقد فوجيء الدكتور مؤنس بزيارة من رئيس شركة المخابز وتبين أنه ضابط شرطة وثيق الصلة بالزعيم عبد الناصر. طلب هذا المسؤول زيارة المخابز الشعبية في إسبانيا وعندما سأله د. مؤنس عن السبب قال المسؤول:
- إسبانيا بلد اشتراكي مثل مصر ولا بد من تبادل الخبرات في مجال المخابز الشعبية.
هنا قال د. مؤنس:
- أولاً إسبانيا ليست بلدا اشتراكيا، لكنها تتبع النظام الرأسمالي. وثانيا لا توجد مخابز شعبية في إسبانيا.
قال المسؤول:
- كيف تقول ذلك وقد أعطوني نشرة تؤكد أن إسبانيا بلد اشتراكي؟
طلب الدكتور مؤنس الاطلاع على هذه النشرة فوجد فيها العبارة التالية:
ESPANA ES UN ESTADO SINDICALISTO
قال د. مؤنس للمسؤول:
- يا أستاذ هذه العبارة معناها أن أسبانيا بلد نقابي يعنى فيها نقابات للعمال وهي ليست بلدا اشتراكيا ولا توجد فيها مخابز شعبية.
تفاديا للحرج أخذه د. مؤنس في جولة لبعض المخابز العادية وأثناء الغداء قال المسؤول:
- تصور عندما توليت منصبي في شركة المخابز لم أجد صورة واحدة للسيد الرئيس جمال عبد الناصر فاتخذت قرارا بعمل خمسين صورة كبيرة ببراويز مذهبة لسيادة الرئيس وعلقنا الصور في احتفال أسميناه يوم الرئيس، ثم أعطيت العمال مكافأة ثلاثة أيام كمنحة من سيادة الرئيس.
هذه الحكاية التي أوردها الدكتور حسين مؤنس في كتابه الرائع "باشوات وسوبر باشوات" تكشف لنا عدة حقائق:
أولا: إن المسؤول تم اختياره رئيسا لشركة المخابز ليس لعلمه أو خبرته في هذا المجال ولكن لأن الرئيس عبد الناصر يحبه ويثق فيه.
ثانيا: هذا المسؤول يعاني من جهل فاحش ولا يعرف أي لغة أجنبية ولا أي معلومات عامة وهو مع جهله لا يعتبر نفسه في حاجة لاستشارة الخبراء.
ثالثا: هذا المسؤول يهدر أموال الدولة في سفريات بلا جدوى وبالطبع سيتقاضى بدلات سفر كبيرة وسيستغل الرحلة لشراء طلبات زوجته من إسبانيا.
رابعا: لا توجد وسيلة لمحاسبة هذا المسؤول فلا توجد صحافة حرة ولا برلمان منتخب والوحيد الذي يستطيع إقالة المسؤول هو الرئيس الذي عينه.
خامسا: أكثر ما يهم المسؤول ليس عمله، وإنما رضا الرئيس عنه وبالتالي فهو يهتم بتعليق خمسين صورة للرئيس ثم يصرف للعمال مكافأة باسم الرئيس حتى يهتفوا باسمه.
هذه القواعد الخمس لم تقتصر على إدارة شركة المخابز، بل اتبعها النظام العسكري في كل مجالات الدولة حتى حاقت بمصر في عام 1967 أسوأ هزيمة في تاريخها.
والآن بعد 60 عاما هل تغيرت قواعد الإدارة في مصر؟ للأسف لم يتغير أي شيء في النظام العسكري والأمثلة الكثيرة: اللواء حمدى بدين قائد الشرطة العسكرية يشغل الآن منصب رئيس الشركة الوطنية للثروة السمكية، وهو المسؤول الأول عن الأسماك في مصر مع أن ليس له أي خبرة ولا علم بالأسماك.
اللواء سمير فرج قائد فرقة المشاة الميكانيكية تولى منصب وكيل أول وزارة السياحة مع أنه لم يدرس شيئا في السياحة ثم تولى منصب رئيس الأوبرا مع أن علاقته الوحيدة بالأوبرا كما قال إنه تفرج عليها مرتين.
الرئيس السيسي أعلن مرة أن الله قد خلقه طبيبا يمتلك قدرة استثنائية على فهم أي مشكلة في أي مجال وحلها فورا. كما أعلن السيسي أيضاً أنه لو اتبع دراسات الجدوى لما أنجز معظم مشروعاته العملاقة التي تمت بالطبع بدون دراسات جدوى.
إن مصر الآن تمر بأزمة خطيرة نتيجة لسد النهضة الأثيوبي الذي سيحرم مصر من نصف حصتها من المياه. لقد تولى السيسي الرئاسة منذ ستة أعوام فماذا فعل في هذه الأزمة؟ هل شكل لجنة من الخبراء في المياه والسدود والقانون الدولي لكي يمنحوه خلاصة العلم والخبرة؟ لم يحدث للأسف.
لقد حضرت من سنوات محاضرة للمهندس العالمي ممدوح حمزه شرح فيها بالتفصيل مخاطر سد النهضة وذكر الطريقة المثلى للتعامل مع الأزمة وقد أخبرني المهندس حمزه أنه قام بتسليم هذه الدراسة للمسؤولين في الحكومة، لكنهم لم يلتفتوا إليها لأن ممدوح حمزه من معارضي السيسي وهؤلاء لا يتعامل معهم النظام إلا بالاعتقال وتلفيق القضايا.
لقد وقع السيسي مع أثيوبيا عام 2015 اتفاق مبادئ منح شرعية لسد النهضة بدون أي تحديد لشروط ملء السد وكانت النتيجة أن أقبلت دول جديدة على تمويل السد، لأن مصر المتضررة وافقت عليه ثم رأينا السيسي في مشهد عبثي يطلب من رئيس وزراء اثيوبيا أن يحلف بالله العظيم أنه لن يسبب ضررا لمصر (!). لقد ماطلت أثيوبيا وتظاهرت بقبول التفاوض من أجل كسب الوقت وعندما انتهت أو كادت من بناء السد أعلنت أنها غير ملزمة بأي شيء لأي جهة وأنها ستستعمل السد كما يحلو لها. هل اعترف السيسي بخطئه وهل هناك أي طريقة لمحاسبة السيسي على تهاونه وتقصيره في أزمة سد النهضة؟ بالطبع لا لأن الديكتاتور فوق النقد والمحاسبة مهما تسبب في كوارث سيدفع ثمنها ملايين المصريين.
في هذا المقال* يشرح الكاتب المصري علاء الأسواني العلاقة بين إدارة المخابز وسد النهضة.
.
الديمقراطية هي الحل
علاء الأسواني
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي مؤسسة DW.