علاء الأسواني: حكاية سائق التاكسي والمحامية الشابة
١١ فبراير ٢٠٢٠منذ شهور ركبت مع سائق تاكسي في القاهرة . كان في الخمسينيات من عمره نحيف الجسد وجهه مليء بالتجاعيد وشعره أشيب تماما. قال فجأة:
- أنا حأوصل سيادتك وأرجع البيت. والله الواحد تعبان جدا. قضيت طول النهار في إدارات المرور. ربنا يجازي اللي كان السبب.
سألته فحكى لي واقعة غريبة:
كان يقوم بتوصيل فتاة ودخل على كمين للشرطة، فطلب منه الضابط رخصة القيادة. يبدو أن السائق تأخر قليلاً وهو يبحث عن الرخصة، فقال له الضابط:
- هات الرخصة بسرعة يابن كذا (شتم أمه).
عندئذ تدخلت الفتاة وقالت للضابط:
- طبقا للقانون ليس من حقك أن تشتمه.
غضب الضابط وطلب منها البطاقة الشخصية فأعطتها له وقالت:
- أنا محامية وأكرر أنه ليس من حقك أن تشتم أي مواطن مصري. واجبك أن تنفذ القانون فقط،
عندئذ أعاد لها الضابط بطاقتها وقال بسخرية:
- حاضر يا أستاذة سأنفذ القانون فقط
قام بسحب رخصة السائق وأعطاه ايصالا بها. عبثا حاول السائق إقناعه بأن يترك رخصته لكن المحامية قالت للسائق:
- سيبه يسحب الرخصة.. ولايهمك يا حاج أنا معك.
أعطته رقم تليفونها وقالت له:
- قبل أن تذهب إلى إدارة المرور اتصل بي وأنا سأحضر معك. سنأخذ الرخصة ونقدم شكوى رسمية. لابد أن يفهم هذا الضابط وأمثاله أن المصريين عندهم كرامة ولا يجوز إهانتهم.
سألت السائق:
- وهل اتصلت بالمحامية لكي تحضر معك؟
ابتسم السائق بمرارة وقال:
- و أنا عبيط؟ إذا كان الضابط سحب رخصتي بسبب كلمة واحدة من المحامية. لو أخذتها معي كانوا حبسوني.
سكت السائق ثم استطرد قائلا:
- رحت المرور ما لقيتش الرخصة طبعا لأن الضابط زعلان وقرر أنه يعاقبني. في الحالة دي بيحتفظ بالرخصة معه وكل ما أسأل عليها يقولولي: تعالى بعد أسبوع يكون الضابط سلمها للمرور.
- يعنى لقيت الرخصة؟
- أولاد الحلال نصحوني أروح للضابط في الكمين وأعتذر له وفعلا رحت له وطيبت خاطره بكلمتين وأعطاني الرخصة بعد طلوع الروح.
أحسست بغضب فقلت:
- تعتذر ليه إذا كان هو اللي شتمك؟
- أعتذر عشان آخذ رخصتي وبعدين المحامية غلطت.
- المحامية ماغلطتش. بالعكس موقفها محترم.
- محترم ايه.. الله يخرب بيتها.
- يا حاج المحامية دافعت عن كرامتك.
- والله أنا ما طلبتش من حد يدافع عن كرامتي.
- يعني عاجبك الضابط يشتم والدتك؟
سكت السائق لحظة، ثم قال:
- يابك أنا بقى لي 30 سنة سواق. ضابط الشرطة لما يبقى صغير في السن وفرحان بالسلطة اللي معه لازم يثبت أنه أعلى منك. يبقى لازم نفهم الموقف ونفوت.
قلت:
- ضابط الشرطة مش أعلى منك بالعكس هو في خدمتك.
نظر إليّ باسترابة وقال:
- سيادتك بتقول نفس كلام المحامية. هو حضراتكم ليه مش مقدرين ان ده أكل عيش واني في رقبتي عيال بأصرف على تعليمهم في ثانوي وجامعة؟ طبعا ده غير ايجار التاكسي. أي يوم من غير شغل يكلفني كتير .
حاولت أن أرد لكنه قاطعني قائلا:
- يافندم أنا حسأل سيادتك وأرجوك تجاوب من غير كلام كبير وشعارات:
ايه الأحسن: أسمع كلمة بايخة أو حتى شتيمة من الضابط ويسيبني آكل عيش ولا أعمل مشكلة مع الضابط فيسحب مني الرخصة وأدوخ لغاية لما أدفع غرامة وآخدها؟
عند هذا الحد لم أجد فائدة من النقاش. وصلت إلى بيتي ودفعت الحساب وصافحته شاكرا لكنني بعد ذلك فكرت طويلا في هذه الواقعة. من السهل أن نلوم السائق ونعتبره شخصا ذليلا بلا كرامة، لكن يجب أن ندرك أن السائق بعد سنوات طويلة من التعامل اليومي مع السلطة قد وصل إلى يأس كامل من أي إصلاح أو عدالة. ولا يمكن أيضا أن نلوم المحامية الشابة النبيلة التي تدخلت ودافعت عن كرامة شخص لا تعرفه، بل وأبدت استعدادها إلى الذهاب معه إلى المرور.
إن هذه الواقعة تحمل مغزى أكبر من مجرد مشادة لأن العلاقة بين المحامية وسائق التاكسي هي ذاتها العلاقة بين ثوار يناير وقطاع من المصريين. لقد ثار هؤلاء الشباب وسقط منهم شهداء كثيرون وفقد كثيرون عيونهم وحريتهم دفاعا عن حقوق الشعب، لكن بعض المصريين لا يقدرون تضحياتهم بل انهم يكرهون الثورة التي قامت من أجل كرامتهم وحريتهم ويتهمون شباب الثورة العظيم بالخيانة.
في سجون السيسي عشرات الآلاف من المعتقلين جريمتهم الوحيدة الدفاع عن حقوق الناس. كثيرون من هؤلاء المعتقلين شخصيات بارزة وصلت إلى قمة النجاح المهني وكان بامكانهم أن يعيشوا حياة هادئة مريحة، ومعظم المعتقلين شباب كان بامكانهم أن يسافروا ويبدأوا مستقبلهم في أي بلد آخر لكنهم جميعا آثروا التضحية براحتهم وحريتهم دفاعا عن حقوق الشعب.
إنهم يواجهون التعذيب والضرب والإهانة في السجون بل ويتم اهمال علاجهم عمدا حتى مات منهم العشرات. إن حكاية السائق والمحامية تطرح سؤالا مهما أرجو من القراء الاعزاء أن يجيبوا عليه:
هل أخطأت المحامية عندما دافعت عن كرامة سائق التاكسي؟ وماذا كان يجب عليها أن تفعل لاقناع السائق بأنه يستطيع أن يرفض الاهانة ويدافع عن كرامته ويحتفظ بلقمة العيش في نفس الوقت؟
في انتظار إجاباتكم وشكرا جزيلا
الديمقراطية هي الحل
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي مؤسسة DW.