السينما الألمانية تسير في الاتجاه الصحيح ولكنها لم تصل إلى الذروة
٢٦ فبراير ٢٠٠٧انتهت أعمال الدورة السابعة والخمسون لمهرجان برلين السينمائي الدولي "برليناله" بفوز الفيلم الصيني "زواج تويا" بجائزة المهرجان الكبرى ولم يبق من جوائز دورة هذا العام في ألمانيا إلا جائزة واحدة كانت من نصيب الممثلة نينا هوس (31 عاما) عن فيلم مواطنها كريستيان بيتسولد "يللا". صحيح أن شريحة كبيرة من المختصين الألمان بدأت بعد عرض الفيلمين الألمانيين "المزورون" من إخراج شتيفان روزوفيتزكي و"يللا" من إخراج كريستيان بيتسولد في المسابقة الرسمية للمهرجان باستباق الأمور ومغازلة المخرجيْن وإصدار توقعات باحتمال بقاء الجائزة الكبرى لدورة هذا العام في ألمانيا، ولكن حصول ممثلة ألمانية على إحدى الجوائز الكبرى يعتبر إنجازا كبيرا وخاصة إذا تذكرنا أن الـ "برليناله" هو أحد أهم المهرجانات السينمائية العالمية. نينا هوس استحقت هذه الجائزة منذ عدة سنوات، ولكن فيلم "رجل ميت" (Toter Mann) الذي أتقنت هوس دوره الرئيسي لم يتم لسوء الحظ عرضه في المهرجان. وهذا ينطبق أيضا على فيلم آخر مثلت فيه هوس الدور الرئيسي وهو فيلم "فولفسبورغ"
كان و"عقدة" الأفلام الألمانية
ولكن إنجازات السينما الألمانية في السنوات الأخيرة لا تقتصر على فوز نينا هوس بجائزة أفضل ممثلة لعام 2007 أو على فوز مواطنتها الشابة يوليا ينش في دورة عام 2006 أيضا بذهبية أفضل ممثلة عن دورها في فيلم "صوفيا شول ـ الأيام الأخيرة" أو على ترشيح فيلم "حياة الآخرين" من إخراج فلوريان هينكل فون دونرسمارك لأوسكار 2007، إذ أن إلقاء نظرة متمعنة على المهرجانات السينمائية العالمية، باستثناء مهرجان كان الفرنسي وعلى حصص الأفلام الألمانية في سوق قطاع السينما يشير بوضوح إلى أن "أحفاد" فاسّبيندر وفيرنر هيرتسوغ وفريتس لانغ قادرون على المنافسة عالميا. إن استثناء كان، أهم المهرجانات السينمائية العالمية لم يأت بالصدفة، إذ أن كان والحق يقال يُعرض منذ عدة سنوات أو يتحفظ على تقديم أفلام ألمانية في المسابقة الرسمية. وإذا تناولنا دورتي عامي 2002 و2006 لمهرجان برلين السينمائي الدولي، فإننا نلاحظ أن ألمانيا شاركت في دورة كل عام من العامين المذكورين بأربعة أفلام في المسابقة الرسمية. نحن لا ننكر بالطبع أن بعض هذه الأفلام مثل "الليل يغني أغانيه" و"الصخر" لم يحظ باستحسان النقاد السينمائيين ولم يحقق النجاحات المطلوبة على شباك التذاكر، ولكن عالم الفن السابع كان أيضا شاهدا على أفلام جلبت الانتباه من جديد إلى السينما الألمانية. وهنا يجب علينا أن نذكر رائعة المخرج الألماني من أصل تركي فاتح أكين "عكس التيار" أو فيلم فولفغانغ بيكر "وداعا لينين" أو فيلم مارك روتموند "صوفيا شول ـ الأيام الأخيرة".
الـ"برليناله" .. أول مهرجان في العام
وبما أن مهرجان برلين السينمائي ينظم عادة في بداية كل عام ويسبق المهرجانات الأخرى من حيث التوقيت، فإن هذه التظاهرة السينمائية تعتبر مقياسا مهما للحكم على جودة أفلام العام السابق وأهميتها الفنية. وإذا ألقينا نظرة سريعة على الأفلام الألمانية التي عرضت في دورة هذا العام وعلى تصريحات بعض المختصين، فإننا نلاحظ رضاء المسؤولين السينمائيين على أداء السينما الألمانية في هذا العام. وفي هذا الخصوص، نستشهد برأي ديتر كوسليك، مدير مهرجان برلين السينمائي الذي وفر منذ تسلمه قبل ست سنوات زمام الأمور في الـ "برليناله" جميع الظروف اللازمة لتسويق الأفلام الألمانية والترويج لها خارج بلادها. ووصف كوسليك في مؤتمر صحفي نظم على هامش المهرجان الدولي المشاركة الألمانية بالقول إنها "وصلت بفلمين إلى مستواها الطبيعي." أما هانس باديفيتس، مدير فرع "السينما الألمانية" الذي يرافق الـ "برليناله" فإنه يعتبر المشاركة الألمانية "جيدة". وفي لغة الأرقام، قدمت ألمانيا في دورة هذا العام 60 إنتاجا سينمائيا عرض منها اثنان في المسابقة الرسمية والبقية في المهرجانات المرافقة وخاصة في مهرجان "السينما الألمانية" الذي يرافق المسابقة الرسمية.
انتقادات غير محقة
وإذا قارنا المشاركة الألمانية في دورة هذا العام بمشاركة الأفلام الفرنسية، فإننا نلاحظ أن فرنسا شاركت بأربعة أفلام في مسابقة هذا العام، ناهيك عن الأفلام الوثائقية والقصيرة التي عرضت في المهرجانات المرافقة مثل "بانوراما" أو "كامبوس المواهب الشابة" أو "منبر". ومن هذا المنطلق، لا بد من القول إن الانتقادات التي توجه دائما إلى منظمي مهرجان برلين باستغلال المهرجان للترويج للأفلام الألمانية ليس محقة. ففي كل عام، نكون شاهدين على الأفلام التي تعرض في مهرجان كان السينمائي الدولي، أهم المهرجانات السينمائية الدولية ونلاحظ أن المهرجان يهتم بصورة خاصة بالأفلام الفرنسية ويحاول عرض أفلام فرنسية مشتركة أو أخرى تلاقي نجاحات على شبابيك التذاكر الفرنسية. الأمر لا يختلف بالنسبة للسينما الاسبانبة في مهرجان سان سيباستيان أو لنظيرتها الإيطالية في مهرجان البندقية.
السينما الألمانية عالمياً
هذا بالنسبة لمهرجان برلين. أما بالنسبة للمهرجانات السينمائية الدولية الأخرى، فلا يسعنا سوى القول إن السينما الألمانية كان لها في دورات العام الماضي لهذه المهرجانات وجودا بارزا. فقد شاركت السينما الألمانية في العام الماضي في أكثر من 80 مهرجان في أوروبا والولايات المتحدة وأمريكيا الجنوبية وآسيا. ومن أبرز هذه المشاركات كانت حصول فيلم "جنة عدن" للمخرج ميشائيل هوفمان على جائزة الجمهور في مهرجان روتردام الهولندي وفوز فيلم المخرجة فاليسكا غريسباخ على جائزة لجنة التحكيم في مهرجان بوينس آيريس الأرجنتيني وحصول أفلام أخرى على جوائز قيمة في مهرجانات مثل شنغهاي ولايبزيغ وغيرها. وعن حصص الأفلام الألمانية في أسواق السينما، لا بد من الاستشهاد برأي شركات التوزيع التي يرى معظمها أن حصص السينما الألمانية في الأسواق ازدادت في الأعوام الأخرى. وهنا تؤكد شركة التوزيع "بافاريا إنترناشونال" أن الإقبال الأجنبي على شراء الأفلام الألمانية ازداد بشكل ملحوظ في السنوات الماضية. من ناحية أخرى، أثبتت السينما الألمانية الحديثة أنها قادرة على تقديم أفلام مؤثرة، داحضة بذلك الاتهامات المعروفة بأن السينما الألمانية غير قادرة على الخروج من فخ الأفلام الذهنية الصعبة.
"السقوط " ومحاسبة الذات
من أجل مناقشة حال السينما الألمانية لا بد من التطرق إلى مجموعة من الأفلام التي تناولت موضوعا حساسا وله حضور دائم في الوعي الألماني وهو موضوع الحقبة النازية. ومن بين الأفلام الألمانية التي لاقت رواجا عالميا وناقش فيها مخرجون ألمان تاريخهم الحديث وحاسبوا ذاتهم فيها كان فيلم "السقوط" الذي يحاول فيه المخرج أوليفر هيرشبيغل تقويم الحقبة النازية في ألمانيا من منظور آخر. ولا يمكن النظر إلى هذه الصفحة السوداء في التاريخ الألماني دون التطرق إلى ثلاثة أفلام أخرى أخذت هي أيضا على عاتقها مهمة إلقاء الضوء على الحقبة لنازية. فعلى سبيل المثال سرد فيلم "شتاوفينبيرغ" من إخراج جو باير بإسهاب قصة محاولة الجنرال شتاوفينبيرغ القيام بمحاولة انقلاب ضد هتلر ونظامه، الأمر الذي دل على وجود مقاومة ضد الدكتاتور وأفكاره الجهنمية حتى في صفوف جنرالات رفيعي المستوى وليس كما يدعي البعض أن الشعب الألماني وقف قلبا وقالبا مع زعيمه وأعماله الإجرامية. أما فيلم "اليوم التاسع" من إخراج أحد أهم المخرجين الألمان وهو فولكر شلوندورف، فيتعرض لفكرة محرمة وهي إرسال قسيس كاثوليكي إلى معسكر الاعتقال "داخاو". وهذا الفيلم يدل أيضا على أن الأعمال الإجرامية التي قام بها النظام النازي لم ترتكب بحق شعب أو دين معين أو طبقة اجتماعية معينة. أما الفيلم الثالث وهو "نابولا" الذي أخرجه الشاب دينيس غانسل فيتحدث عن مدارس النخبة العسكرية في العصر النازي التي وقعت على عاتقها "تخمير" طاقات شابة لـ "القائد" (هتلر).
جاءت هذه الأفلام الثلاثة لتشكل اتجاها جديدا لم تعرفه السينما الألمانية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ولكن فيلم هيرشبيغل "السقوط" توٌج هذه الحركة ليغيب فيه هتلر النازي والمتوحش والقاسي والمجرم كما ظهر في أفلام هوليوود التي لا تعد ولا تحصى ويظهر وكأنه إنسان قادر على الحب والكراهية وذرف الدموع والندم والزواج والرقص وفي النهاية الانتحار. جميع هذه الأخبار الجيدة تدعو إلى التفاؤل، ولكن البدء بكيل المديح على صناع السينما في ألمانيا والقول إن الأفلام الألمانية وصلت إلى الذروة شيء خاطئ. فألمانيا ما زالت تعيش أجواء أهم مهرجاناتها وبسمة نينا هوس، أجمل بسمة في الـ"برليناله" أثناء تسلمها لفضية أفضل ممثلة ما زالت عالقة في مخيلة النقاد والجمهور..... إلى متى؟