برليناله 2007 .. فيلم "المزورون" يتطلع بحق إلى جائزة المهرجان الكبرى
١٣ فبراير ٢٠٠٧عندما بدأت الصحافة الألمانية المتخصصة قبل أيام قليلة من انطلاق نشاطات الدورة السابعة والخمسين لمهرجان برلين السينمائي "برليناله" برفع أسهم الفيلم الألماني المشارك في المسابقة الرسمية للمهرجان "المزورون" (Die Fälscher) عندها قلنا، لنتريث قليلا قبل الحكم على الفيلم الجديد، فلقد عودتنا المطبوعات الألمانية المتخصصة في السنوات الماضية على كيل المديح للسينما الألمانية وكأنها استعادت أمجاد فيرنر راينر فاسّبيندر أو فيرنر هيرتسوغ أو غيرهم من كبار صناع السينما الألمانية. نحن لا نُنكر بالطبع أن السينما الألمانية قدمت في السنوات الأخيرة أفلاما تستحق المتابعة والاهتمام مثل "عكس التيار" للمخرج الشاب فاتح أكين أو "لا تأت طارقا بابي" لفيم فاندرز، أحد أهم المخرجين الألمان المعاصرين.
كما شهدت بزوغ نجم صناع سينما وممثلين شباب ساهموا في السنوات الأخيرة في إعادة الاعتبار لما يسمى بـ "السينما الألمانية الجديدة"، لكن الإفراط في كيل المديح لهذه الأفلام والتمجيد المبالغ فيه بدا لنا فيه بعض المغالاة والتضخيم. ولكن بعد مشاهدة فيلم "المزورون"، يمكننا القول إن كل ما ذكر لا ينطبق على هذا الفيلم الذي يعتبر ـ لغاية الآن ـ من أكثر الأفلام المرشحة للحصول على أحد جوائز المهرجان القيمة. فقد استطاع المخرج شتيفان روزوفيتزكي تقديم فيلم يأسر مشاعر المشاهد منذ لقطاته الأولى، ولكنه يسليه رغم صعوبة ومرارة موضوعه. ولا تقتصر أهمية الفيلم على ندرة الموضوع المتناول فقط، بل إن الأداء التمثيلي للممثليْن كارل ماركوفيش (سالي سوروفيش) وديفيد ستريسو (فريدريش هيرتسوغ) يجلب الانتباه ويستحق دون شك التوقف عنده والمراقبة.
أكبر عملية تزوير في التاريخ
يسرد الفيلم قصة مزور يهودي مكّار وهو سالي سوروفيش الذي اعتبر في برلين الثلاثينيات "ملك المزورين" دون منازع. هذا المزور بقي يستمتع برغد الحياة وتقدير واحترام الآخرين حتى ألقي القبض عليه ونقل إلى معسكر الإبادة النازية "ماوتهاوزن". في هذا المعسكر، استطاع سوروفيش البقاء على قيد الحياة بسبب قدراته المتميزة على استخدام أقلام التخطيط وفرشاة الرسم. ولكن هذا كله لم يعفيه من النقل إلى أحد أضخم معسكرات الإبادة في الحقبة النازية وهو معسكر "ساكسنهاوزن". هذا المعسكر كان شاهدا على ما يسمى بـ"عملية بيرنهارد"، التي تعتبر أكبر عملية تزوير عملة عرفها التاريخ آنذاك. ومن أجل هذا الغرض، أسست القيادة النازية في معسكر الإبادة ورشة ضخمة أُجبر فيها المعتقلون على تزوير ملايين الدولارات والجنيهات من أجل تمويل خزينة الحرب ولكن أيضا من أجل زعزعة استقرار العملتين الأمريكية والبريطانية.
"عملية بيرنهارد"
عندما بدأ الجيش النازي في عام 1943 يخسر جبهة تلو الأخرى، أصر المسؤولون عن ورشة التزوير على مواصلة وكسب "حرب العملات" على الأقل. وشاءت الصدفة أن يدير ورشة التزوير الضابط النازي ذاته الذي كان في عام 1936 مسؤولا عن اعتقال سالي سوروفيش وهو فريدريش هيرتسوغ (ديفيد ستريسو). وبفضل سوروفيش، نجحت "عملية بيرنهارد" واستطاع المعتقلون تزوير مبالغ ضخمة اعتبرها حتى البنك البريطاني "Bank of England" أصلية. ومقابل ذلك، وفرت القيادة النازية بعض الامتيازات للمعتقلين كالسماح لهم بسماع الموسيقى أو ممارسة لعبة التنس. وبعد النجاح في مهمة تزوير العملة البريطانية، جاء دور الدولار الأمريكي. عندها بدأت تظهر بين المزورين بعض خلافات الرأي وخاصة بعد ظهور المزور الشيوعي أدولف بورغر (أوغوست ديل) الذي حاول مرارا مقاطعة عمليات التزوير وإعاقتها. أما البرغماتي سوروفيش الذي يعتبر من أهم المزورين فقد كان ضحية صراع ضميري، فمن ناحية يعرف سوروفيش أن بورغر على حق، ولكنه يعرف من ناحية أخرى أن مقاطعة العمل لا يعرض حياته فقط للخطر، بل حياة آلاف المعتقلين كذلك.
"المزورون" .. بدأ حزينا وانتهى كرقصة تانغو
"المزورون" فيلم صادق تناول موضوعا جديدا عن الحقبة النازية لم يتناوله مخرج بهذا الإسهاب من قبل. ولكنه أيضا يسلّي مشاهده ويستمد أهميته قبل كل شيء من الأداء التمثيلي المتميز لكارل ماركوفيش وديفيد ستريسو وأوغست ديل. ومن أهم مقاطع الفيلم التي تهز مشاعر المشاهد من الأعماق هي لقطات تحرير المعسكر من قبضة النازيين وتعرف المزورين على بقية أجزاء المعسكر وعلى العذاب الذي عانى منه بقية المعتقلين. وفي هذه اللحظات بالذات، يتجلى الصراع الضميري الذي عايشه سوروفيش، فمن ناحية توفرت له ولجميع المزورين جميع وسائل الراحة والأمان ولكنه من ناحية أخرى تعرف بعد تحرير المعسكر على الظروف المأساوية التي عايشها معتقلون آخرون لم يستثنِ منهم النازيون لا الأطفال ولا كبار السن ولا النساء. "المزورون" فيلم بدأ حزينا وانتهى كرقصة تانغو .... جميلا ولكن ملانخولياً.