أردوغان يغازل السعودية ـ أولوية المصالح على الإيديولوجيا
٢٠ يناير ٢٠٢٢أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان(الاثنين 17 يناير/ كانون الثاني 2022) نيته زيارة للمملكة العربية السعودية خلال شهر فبراير/ شباط المقبل، وذلك للمرة الأولى منذ اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية المملكة بإسطنبول عام 2018، على يد مجموعة اغتيال قيل فيما بعد أنها كانت تعمل تحت الإمرة المباشرة لولي العهد السعودي محمد بن سلمان. غير أن العلاقات بين أنقرة والرياض تدهورت حتى قبل مقتل خاشقجي بسبب فرض دول خليجية ومصر حصار على قطر عام 2017. وفي سؤال طرح له بشأن ولي العهد السعودي أجاب أردوغان بالقول "إنه يتوقع قدومي في فبراير، لقد وعدني. سأقوم بزيارة إلى المملكة العربية السعودية في فبراير".
زيارة أروغان إلى المملكة تأتي في سياق جهود أنقرة لفتح صفحة جديدة في علاقاتها مع القوى الإقليمية المجاورة لها وبالأخص مع دول الخليج العربي "دون تمييز" حسب تعبير أردوغان. ووفق ذلك سبق له وأن استقبل ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد آل نهيان في أنقرة في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، تعهد خلالها الأخير باستثمارات ضخمة في تركيا. وبعدها توجه أردوغان إلى الدوحة في مطلع ديسمبر في زيارة استغرقت يومين. وبهذا الصدد كتبت صحيفة "فرانكفورته ألغماينه تسايتنوغ" الألمانية (الرابع من يناير/ كانون الثاني 2022) "في المعركة المحتدمة على الريادة في الشرق الأوسط، تتحارب كل من تركيا وقطر اللتان كانتا في أوج قوتهما الاقتصادية من جهة، والسعودية والإمارات ومصر من جهة أخرى (..) واليوم تحاول أنقرة كسر جدار الجليد بينها وبين الرياض فقد هاتف أردوغان الملك سلمان بالفعل مرتين العام الماضي. لكن ما تحتاجه تركيا، التي تواجه أزمة اقتصادية حادة، هو التزامات اقتصادية ملموسة، أقلها عودة العلاقات التجارية مع المملكة إلى حالتها الطبيعية".
تقلبات عقيدة الديبلوماسية التركية في عهد أروغان
إلى غاية منتصف عام 2010، كان أحمد داوود أوغلو، هو مهندس استراتيجية الدبلوماسية التركية، وقد شغل أوغلو منصب وزير الخارجية في الفترة بين (2009-2014) وبعدها رئيسا للوزراء (2014-2016). وكان تأثيره ونفوذه قويا لدرجة الحديث عن "عقيدة داود أوغلو" كمرجعية لتموقع تركيا في الساحة الدولية. ومنذ تهميشه ابتداء من عام 2016، لم تعرف الديبلوماسية التركية شخصية فكرية وسياسية بتأثير مماثل. ورغم أن أنقرة زادت من نشاطها الخارجي بشكل مثير على المستويين الإقليمي والدولي، غير أنه بات من الصعب تحديد أهداف ومعالم سياستها الخارجية بمعناها الاستراتيجي البعيد الأمد، وباتت تعكس إلى حد كبير اعتبارات ظرفية للسياسة الداخلية، وإن كان من المتاح تخمين دوافعها. وتزامن هذا التحول بشكل خاص بعد تعزيز سلطات الرئيس إثر التغيير الدستوري عام 2017.
وكانت "عقيدة أوغلو" تهدف إلى ازدهار تركيا بمهادنة محيطها الإقليمي باتباع سياسة ما كان يسمى بـ"صفر أعداء" والعمل على ظهورها كقوة عالمية من خلال مفهوم جديد للأمن القومي يعتمد دبلوماسية نشطة ومتعددة الأبعاد تجمع بين القوتين الصلبة والناعمة. ومنحت ثورات "الربيع العربي" عام 2011 فرصة لأحمد داود أوغلو لدعم المجتمعات المدنية التواقة للديمقراطية في العالم العربي وفقا لهذه الرؤية بالاعتماد على الإخوان المسلمين. لكن فشل هؤلاء في مصر وسوريا أضعف تدريجياً مصداقية هذا الخيار، ما سرًع من تهميش أوغلو. وبالرغم من أنه بات من المعارضين، إلا أن العديد من الأكاديميين المقربين منه أيديولوجيًا أو حتى شخصيًا يواصلون تقديم المشورة لأردوغان. وأهمهم إبراهيم كالين، المتحدث الرسمي باسم الرئاسة.
نفوذ القوميين ـ ديبلوماسية أنقرة في نفق مظلم
فجأة تغير توجه السياسة الخارجية التركية لدوافع داخلية وخارجية على حد سواء، بعد تعليق عملية السلام مع حزب العمال الكردستاني (2015)، وبعد سلسلة اعتداءات على الأراضي التركية مرتبطة بالصراع في سوريا قامت أنقرة بالتدخل عسكريا في هذا البلد (2016)، ثم في ليبيا (2020). كما أن الأزمة مع اليونان في شرق البحر المتوسط زادت من قوة تأثير القوميين داخل المؤسسات الأمنية. على المستوى السياسي لا يتجاوز عدد نواب حزب العدالة والتنمية في البرلمان 289 نائبًا من أصل 600، وهو وضع جعل من حليفه "حزب الحركة القومية" الصغير (50 نائبا) مفتاح الأغلبية البرلمانية لأردوغان، ما زاد بالتالي من تأثير القوميين على الأجندة الاستراتيجية للدولة التركية، وهذا ما ظهر بشكل واضح على سبيل المثال لا الحصر في الدعم الكبير لأذربيجان خلال حربها ضد أرمينيا في خريف عام 2020. غير أن أردوغان يعتمد أيضًا على شخصيات إسلامية مثل مستشاره المقرب عدنان تانريفيردي، مؤسس شركة "سادات" شبه العسكرية، المنخرطة جدًا في دعم الثوار السوريين. كما يعتمد الرئيس التركي أيضًا على عائلته كصهره سلجوق بيرقدار مصنع الطائرات بدون طيار. غير أن الجبهات المختلفة التي تورطت فيها أنقرة، لم تكن مفيدة لها.
قرار التقارب مع "أعداء الأمس" ودول الخليج بالتحديد مؤشر على أن أردوغان اختار الواقعية البراغماتية كما ذهبت إلى ذلك صحيفة "فرانكفورته ألغماينه تسايتونغ" في نفس العدد المشار إليه أعلاه، إذ كتبت معلقة على سعي تركيا لفتح صفحة جديدة مع الإمارات وباقي جيرانها العرب "كان الصراع بين تركيا والإمارات العربية أحد الثوابت الرئيسية في الشرق الأوسط خلال السنوات الأخيرة. لقد واجه الخصمان بعضهما البعض في كل صراعات المنطقة تقريبًا. وهذا ينطبق في المقام الأول على ليبيا وشرق المتوسط والقرن الأفريقي، ولكن أيضًا على مصر (..) هذه المواجهات من أجل النفوذ في الدول الضعيفة أو الفاشلة لم تساعد على استقرار المنطقة، بل على العكس ساهمت في تغذية عدم الاستقرار. كما أدى التنافس بينهما إلى تأجيج التوترات داخل الاتحاد الأوروبي، حيث تقف فرنسا في الغالب إلى جانب الإمارات، في حين تميل ألمانيا وإيطاليا إلى الوقوف إلى جانب تركيا".
الأزمة الاقتصادية تهدد بقاء أردوغان في السلطة
نجاح أردوغان في البقاء في السلطة كل هذه السنوات يعود بالدرجة الأولى لتحويله تركيا إلى قوة اقتصادية صاعدة في المنطقة. فهل تعني الأزمة الاقتصادية الحالية أن أيامه باتت معدودة؟ وهل تفسر هذه الأزمة سعيه لطي الخلافات مع محيطه الإقليمي؟ للتذكير فإن تعثر الاقتصاد هو الذي أدى إلى انهيار النظام الحزبي القديم ما مهد طريق وصول أردوغان إلى السلطة عام 2002. حينها، حققت سياسته نجاحات باهرة، حولت تركيا إلى دولة صاعدة انتزعت مكانها ضمن مجموعة العشرين. أما اليوم فانقلب المشهد رأسا على عقب. وبهذا الصدد كتب موقع "فوكوس دي.إي" الألماني (18 يناير) "من خلال سياسته الاقتصادية الخاصة، يقود الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بلاده بشكل متزايد إلى الخراب. التضخم المتسارع يدمر الاقتصاد المحلي. كما أن الاستياء العارم بسبب هذا الوضع قد يكلفه منصبه".
وبات نظام أردوغان يعيش على وقع التظاهرات والغضب الشعبي بسبب انهيار الاقتصاد والتراجع القياسي لقيمة الليرة إلى النصف وفق وكالة بلومبيرغ، فيما بلغ معدل التضخم 21.3 بالمائة. وهو وضع أدى لتزايد البطالة ومعد الفقر، إذ بات الأتراك يترنحون تحت وطأة ديونهم الائتمانية أو الاستهلاكية وعجزهم عن التسديد. ويرى العديد من الخبراء الاقتصاديين أن من بين أسباب الأزمة الحالية تدخل أردوغان الشخصي في السياسة النقدية للبنك المركزي التركي وإصراره على خفض مؤشر سعر الفائدة الرئيسي ما سرع في تقهقر الليرة. غير أن أردوغان لا يزال بعيدا عن الاعتراف بأخطائه، ملقيا اللوم تارة على رئيس الحكومة أو وزير المالية وتارة أخرى على المعارضة أو قوى خارجية كالمخابرات الأمريكية على حد تعبيره. هذه الأزمة ساهمت بلا شك في تغير سياسة أردوغان الخارجية وسعيه لطي الخلافات مع الدول الخليجية الغنية كالسعودية والإمارات، آملا في استقدام استثمارات ضخمة تساهم في تجاوز تعثر الاقتصاد التركي. غير أنه حتى لو تمكن من ذلك، فمن المستبعد أن تكون النتائج سريعة.
المصالحة الخليجية عجلت بتغيير سياسة أنقرة
اضطر الرئيس التركي أيضا للتفاعل مع التطورات فيالساحة الخليجية، بعدما دخلت قطر، حليف أردوغان الوحيد في المنطقة، في مصالحة مع السعودية والإمارات والبحرين. وهذا ما أجبر تركيا على إعادة العديد من حساباتها. وربما يغير أردوغان سياسته أيضا في ليبيا، حيث كان يتجه إلى مواجهة عسكرية مع مصر العام الماضي. وحينها أدانت جامعة الدول العربية التدخل التركي في ليبيا وسوريا والعراق ووصفته بأنه "خطر على الأمن الإقليمي". ولاشك أن أردوغان قد فهم أيضا أن تحسين العلاقات مع مصر خطوة أساسية لنجاح محاولات التقارب مع دول الخليج. ففي عام 2013، وبعد الإطاحة بالرئيس الإسلامي محمد مرسي، قطع أردوغان علاقات بلاده مع القاهرة، ووصف حينها الرئيس عبد الفتاح السيسي، بـ"الطاغية" وأنه لن يتحدث معه أبدًا، غير أن الضرورات الاقتصادية تدفع أحيانا للمحظورات السياسية.
وبهذا الصدد كتب موقع "موركور" الألماني (15 يناير) أن أردوغان يحاول التقرب من أعداء الأمس، مشيرا إلى الإماراتكمثال، و"التي ترى في دعم تركيا لجماعة الإخوان المسلمين تهديدا لأمنها القومي. من جهتها اتهمت أنقرة أبو ظبي بدعم محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016. كما يختلف الطرفان في عدد من القضايا الأخرى كالأزمة الليبية. والآن قررت الإمارات فعلا إنشاء صندوق بقيمة عشر مليارات دولار لدعم الاستثمارات الاستراتيجية في تركيا تشمل قطاعات عديدة بما فيها الرعاية الصحية والطاقة".
حسن زنيند