يوميات سورية ـ هدنة عيد الأضحى ... "فاصل ونُواصل"
٢٨ أكتوبر ٢٠١٢لحظات من الترقب عاشها كل السوريين في تلك الليلة الموعودة، أعني ليلة عيد الأضحى. إذ لم يكن وحدهم المسلمون على موعد مع لحظات الفرح هذه بل اشترك فيها جميع مكونات المجتمع السوري بكل أديانه وطوائفه وفئاته. ولم تكن هذه الليلة تستمد خصوصيتها من كونها ليلة العيد هذا العام بل لأن السوريين كانوا فيها على موعد مع السلام، مع الأمان الذي فقدوه منذ أكثر من تسعة عشر شهرا.
ومنذ اللحظة الأولى التي أعقبت موافقة كل من الجيشين النظامي والحر (معارضة) على تطبيق هدنة عيد الأضحى، التي اقترحها المبعوث الأممي والعربي الأخضر الإبراهيمي، لم تعد عبارات تهاني العيد كما جرت العادة هي ما يقوم الناس بتداولها في تلك الليلة، بل أصبح السؤال الأول والمسيطر هو "متى تبدأ الهدنة؟ أو: هل بدأت الهدنة حقا؟".
لم يكن القرار الذي اتخذناه أنا وقريبتي مها، التي اضطرت للنزوح إلى منزلنا بعد أن تحولت بلدة حرستا في محافظة ريف دمشق التي تقطن فيها إلى ساحة حرب حقيقة منذ أكثر من أسبوع، في تلك الليلة صائبا. وذلك بأن نكسر الروتين اليومي الذي اعتدناه بالسهر على شرفة منزلي ومحاولة التكهن بمصدر أصوات الاشتباكات والقذائف التي تنبعث كل ليلة من البلدات والأحياء الساخنة، حيث كانت تقول لي مستهزئة "كيف سنستطيع النوم الليلة بعد أن تتوقف أصوات القذائف والانفجارات؟". إلا أنها سرعان ما اكتشفت بأن ظنها لم يكن في محله، فأصوات الاشتباكات والقذائف التي لم تتوقف إلا مع حلول الفجر جعلتها تستغرق في نوم عميق قبل أن يحين منتصف الليل.
لم تكد تنتهي صلاة العيد ويتفكك معها الطوق الأمني الشديد الذي لف أرجاء المدينة بهدف تأمين الطريق الذي سلكه الرئيس بشار الأسد إلى أحد المساجد لتأدية صلاة العيد كما جرت العادة، حتى قررت الذهاب مع مها للاطمئنان على منزلها في بلدة حرستا المشتعلة. فنحن في أول أيام العيد والهدنة، وقرار إيقاف إطلاق النار من الطرفين شجع الكثيرين من سكان البلدات والأحياء الساخنة الذين اضطروا إلى الخروج من منازلهم بسبب القصف على العودة للاطمئنان عليها.
أما بالنسبة لي فأكثر ما كان يشدني للخروج هو حنيني لمدينتي دمشق التي بت لا أعرفها منذ وصول الاشتباكات إلى قلب العاصمة. حنيني إلى دمشق بدون حواجز أمنية وعناصر الأمن والشبيحة الذين ينتشرون في كامل المدينة وبالعتاد الكامل وهم يرمقون المارة بنظرات الحقد والكراهية. حنيني إلى سماء دمشق وهي تتزين بأسراب الحمام الدمشقي دون أن تهرب من هدير الطائرات الحربية. إلا أن الدقيقة الأولى التي أعقبت خروجي من المنزل كانت جديرة بتبديد كل أحلامي بمشاهدة مدينتي بعيدة عن مظاهر الحرب المقيتة، بل على العكس كان استعداد عناصر الأمن للبند الخاص "باحتفاظهم بحق الرد" جعل أعداد الأمن والشبيحة تتضاعف في المدينة على غير العادة.
لم يستغرق الوقت طويلا حتى وصلنا إلى الحاجز الأمني الأول على مشارف بلدة حرستا، وذلك بسبب خلو الشوارع تقريبا من السيارات والمارة على غير العادة في مثل هذا الوقت. فعادة تغص الشوارع بالمارة في مثل هذا اليوم، هم يتوجهون إلى زيارة أقاربهم وجيرانهم ليهنئوهم بقدوم العيد، لكن الأمر اختلف هذه المرة إذ بالكاد كنا نجد بعض المارة العائدين إلى منازلهم بعد صلاة العيد .
وبعد أن قام عناصر الأمن الموجودين على الحاجز بتفتيش السيارة والتدقيق في هوياتنا الشخصية والتأكد من أننا لا نحمل أية شبهة أمنية لم يسمحوا لنا بالدخول إلى البلدة بحجة أن "الدولة لم تتأكد تماما بعد بالتزام العصابات المسلحة بالهدنة المبرمة مع الجيش". لم تستسلم قريبتي مها بسهولة ما أدى إلى حصول مشادة كلامية مع أحد عناصر الأمن الموجودين على الحاجز. عنصر الأمن هددها بأنه سيضطر إلى رفع السلاح بوجهها إن لم نعد أدراجنا فورا، فما كان منها إلا أن استسلمت في النهاية لأننا نعرف جيدا أنه لن يتوانى عن تنفيذ هذا التهديد.
وفي طريق العودة كانت أجواء الترقب والحزن تخيمان على مدينة دمشق وتسرقان معها كثيرا من مظاهر البهجة والفرح والزينة التي ظهرت في بعض الأحياء صباح العيد. هذه المظاهر اختفت تقريبا ولم يبق منها سوى تجمع بعض الناس عند الجزارين لينتهوا من تقطيع أضحية العيد لتوزيعها على الفقراء والمحتاجين لها وهم كثر في هذه الأيام.
لم تكد الساعة تدق الساعة الثانية بعد الظهر حتى سمعنا دوي انفجار قوي ملأ أرجاء العاصمة. بعد وقت قصير من الانفجار علمنا أنه كان بسيارة مفخخة بالقرب من تجمع لعدد من مراجيح الأطفال في حي الزهور بمنطقة دف الشوك بدمشق. هذا الخبر جعلنا نتوقع الأسوأ، أي أن الطرفين تراجعا عن تعهدهما بالالتزام بالهدنة الذي لم يمض عليه أكثر من اثني عشر ساعة. قريبتي مها تنهدت بحزن وهي تعلق على خبر انهيار الهدنة قائلة: "فاصل ونُواصل، الآن عادت الحياة إلى طبيعتها في دمشق"، وذلك في إشارة إلى الفواصل الإعلانية في بعض محطات التلفزة.
وبالرغم من كل هذه الأجواء لم تستطع قريبتي مها التنازل عن عادتها بزيارة المقبرة التي دفن فيها والدها، شأنها في ذلك شأن أغلبية الدمشقيين الذين اعتادوا على زيارة موتاهم في أيام العيد. بيد أن حالة الترقب والخوف التي كانت تعيشها دمشق دفعتها إلى تأجيل هذه الزيارة إلى ثاني أيام العيد، لكنه لم يكن أفضل حالا من سابقه. فقد استيقظت العاصمة السورية على أصوات للقذائف والمدفعية التي عادت لتواصل سقوطها على الأحياء الجنوبية والريف المتاخم لها، مكرسة بذلك سقوط هذه الهدنة التي كانت أكثر هشاشة من حلويات العيد التي حرم منها السوريين على مدى الأشهر التسعة عشر الماضية.