يوميات سورية - أرجوك أعطني هذا الدواء...!
٢ نوفمبر ٢٠١٢ممر ضيق طويل تتوزع على جانبيه غرف بأرقام فردية... وراء الأبواب تناهى أنين ألم ممزوج بهلوسات المخدر وهمسات متضرعة لشفاء قريب. سبعة أيام قضيتها في هذا الممر الواقع بالطابق الثالث لمشفى خاص وسط العاصمة دمشق. سبعة أيام قضيتها جيئة وذهاباً في الممر الضيق الذي يفضي إلى ردهة صغيرة تشغلها مقاعد جلدية مثبتة بالجدران، وكأن مصممها كان على يقين بضرورة إحكام تثبيتها لضمان سلامة شاغليها من الانهيار والسقوط حزناً على عزيز يتألم في إحدى الغرف فردية الأرقام.
يعاني والدي من ارتفاع كبير في الحرارة مصدره التهاب مجهول المصدر والسبب، الأدوية الخافضة للحرارة والأدوية المضادة للالتهاب محلية وأجنبية الصنع، والتي حصلنا عليها بأسعار باهظة وتناولها والدي على مدار أسبوعين، لم تأت بنتيجة مرضية. فكان قرار الطبيب أن يخضع والدي لمراقبة طبية دقيقة ومستمرة في المشفى، لاكتشاف السبب ومن ثم إيجاد الدواء المناسب.
وصلنا للمشفى في تمام الساعة الـ12 ظهراً، إلا أن طبيب والدي لم يتمكن من معاينته حتى مساء اليوم التالي بسبب عدم تمكنه من الخروج من بيته والوصول للمشفى، نتيجة اشتباكات حدثت في منطقة سكناه وأدت إلى إغلاق كافة سبل الخروج في وجهه بحسب قوله.
"ماذا لو غاب الطبيب لنفس السبب عن حالة طارئة أو سيدة في حالة ولادة؟"، تساءلت بغضب أمام مكتب الاستعلامات في المشفى، فجاءني الجواب بنفس النبرة الغاضبة من الموظف المسؤول "وماذا عسانا أن نفعل؟؟ هذا هو الواقع!".
هذه ليست المرة الأولى التي يدخل فيها والدي إلى المشفى عموماً وإلى هذا المشفى تحديداً، لذا كان من البديهي لأمي عن تسأل عن فاطمة وإنعام الممرضتين اللتان طالما اعتنين بوالدي. "فاطمة عادت إلى قريتها بعد اختطاف زوجها في وضح النهار"، شهقت أمي فأعقبت الممرضة الجديدة ابتسام بوجه خال من الابتسام: "مشي الحال دفعوا الفدية المطلوبة وعادوا للقرية مباشرة".
أما إنعام فقد فصلت عن العمل لعدم تمكنها من الالتحاق به على مدى أسبوعين كاملين بسبب سكنها في أحد المناطق الساخنة على أطراف دمشق. "الحمد لله أن طبيب والدي تأخر 24 ساعة فقط"، همست في أذن أمي.
"ماما تعاني من تضخم حاد ومزمن في الغدة الدرقية يؤثر سلباً على تنفسها ويجعلها بحاجة يومية للخضوع لأربع ساعات على الأقل لجهاز التنفس الاصطناعي الذي اشتريناه مؤخراً بالدين"، تشرح سهام، صديقتي الجديدة على مقاعد الانتظار الجلدية، مشكلة والدتها الصحية والتي أجبرتهم على نقلها إلى المشفى بسيارة إسعاف قبل ثلاثة أيام ليستقر بها الحال في غرفة العناية المشددة.
"لا فائدة من جهاز التنفس الاصطناعي الألماني الصنع والباهظ الثمن في ظل انقطاعات الكهرباء المستمرة" تقول سهام بيأس. "لماذا لم تحضروا مولدة؟" أتساءل بسذاجة، فتجيب سهام "والله اشترينا. لكن المولدة الصينية التي تكبدنا ثمنها 22 ألف ليرة سورية توقفت عن العمل من دون أن نشعر وكادت أمي أن تموت اختناقاً لولا لطف الله بنا". لا تكاد سهام تنهي جملتها حتى تطفئ أنوار الممر لثوان لا تتجاوز الخمس لتعود بعدها لإنارة المكان يرافقها ضجيج المولد الكهربائي.
بجواري أنا وسهام، يجلس أحمد شاب عشريني يقضي معظم وقته في الاستراحة بالحديث على الهاتف سعياً وراء تأمين دواء والده السبعيني. فأبو أحمد يعاني من التهاب الكبد الفيروسي ودواءه يومي ولا يجب أن يوقفه ولكنه لم يعد قادراً على تأمينه من وزارة الصحة مؤخراً، فاضطر إلى دخول المشفى للحصول على الدواء بصورة يومية لحين تمكنه من توفيره خارجها.
تقول منظمة الصحة العالمية إن عدداً كبيراً من مصانع الأدوية في سوريا خرج من الإنتاج مؤخراً، حيث أُغلق الكثير منها في حمص وحلب، بالإضافة إلى عشرين معملاً ومستودعاً في مدينة حلب أصابهم الضرر وعدد من مستودعات الأدوية الموجودة في ريف دمشق التي أحرقت ودمرت بالكامل. ما قالته المنظمة العالمية أكده معاون وزير الصحة السوري في أحد تصريحاته، مؤكداً أنه رغم توقف معامل إنتاج الأدوية عن العمل، لكن هناك مخزوناً وافراً من الأدوية في المحافظات الأخرى، كما أن الوزارة قامت بالتنسيق مع هذه المخازن والمعامل من أجل تأمين الدواء لجميع الصيدليات تقريباً.
"لم يُفقد الدواء بشكل كلي ولكن لا يمكن نكران وجود أزمة دوائية"، تقول صيدلانية المشفى. الأزمة واضحة لبعض الأصناف بسبب العقوبات الدولية وما فرضته من صعوبات على الاستيراد والتحويلات المالية ومجهولة المصير وغير واضحة للبعض الآخر على حد قولها، "لدينا صعوبات في تأمين أدوية الضغط والسكري وأدوية التهاب الكبد والسرطان فضلاً عن فقدان أنواع من الأدوية العصبية وأنواع من حليب الأطفال"، مؤكدة أن صيدليات المشافي أفضل حالاً بكثير من الصيدليات الخاصة المغلق معظمها في المناطق الساخنة والتي تعاني أيضاً من صعوبات كبيرة في وصول شركات توزيع الأدوية إليها.
في المشفى، تمر الأيام ببطيء شديد لا شيء يحركها إلا انتظار طويل لزيارات الأطباء المفترضة لمرضاهم في جولات صباحية أو مسائية بحسب الإمكانية المتاحة لهم للوصول إلى المشفى. وفي انتظار أي من الجولتين تبقى مواعيد زيارة المرضى في فترة الظهيرة المتنفس الوحيد للمرضى وذويهم.
معظم الزائرين لا يحملون زهوراً أو علب حلوى كما جرت العادة عند زيارة المرضى، فالظروف المعيشية الحالية بالتأكيد تجعل العتب مرفوعاً، خاصة وأنهم –أي الزائرين- يقدمون للمرضى وذويهم خدمة "الخبر العاجل" وبصورة مجانية. فمع الغياب القسري لشاشات التلفزة الإخبارية داخل المشفى ورغم هدير المروحيات الذي لا يتوقف، نتعطش نحن في الردهات الباردة لسماع الأخبار الواردة تباعاً عن الزائرين شهود العيان.
"والله أكثر من ثلاث أرباع الساعة فقط لعبور حاجز نفق الثورة"، يقول أحد الزائرين في الردهة الصغيرة بصوت عال قبل أن يقول مستدركاً: "يا أخي مو مشكلة المهم يكون في أمان". فيقاطعه زائر آخر "فجر اليوم فجروا حاجز للجيش على طريق المتحلق الجنوبي"، لتتوالى الأخبار على النحو التالي: حرقوا الجامع الكبير في حلب/ جثة مجهولة الهوية على طريق المطار/ اكتشفوا جثث أربعة أشخاص من عائلة واحدة في عين ترما/ سبعة ملايين قيمة الفدية التي دفعتها عائلة فلان لاستعادة ابنهم المخطوف....
وبعد أن تصفر الوجوه ويصاب الجميع بارتفاع حاد في ضغط الدم بسبب الأخبار الواردة، يستدرك الزائرون ضرورة مراعاة الوضع الصحي للمرضى على الأقل، فيحاولون تغيير موجة الأخبار لتصبح على شاكلة: الدولار يصل إلى 75 والمركزي يوقف البيع/ 50 ليرة كيلو البطاطا و75 كيلو الكوسا/ أما البيض فحدث ولا حرج فقد وصل إلى 325 ليرة سورية للصحن الواحد!!
تقول إحدى الزائرات قبل أن تغادر مسرعة بعد مكالمة هاتفية طارئة من مدرسة أبنائها، تعلمها بتوقف التدريس اليوم بعد انتشار أنباء عن سيارة مفخخة في المنطقة جار البحث عنها.. يغادر الزوار على عجالة ويغيب معظم الكادر الطبي لأسباب قاهرة ليبقى المرضى وذويهم في حالة انتظار وترقب ودعاء متواصل لشفاء عاجل لبلدهم قبل مرضهم فمتى تعافت الروح، سوريا، تعافى الجسد، الشعب.