يوميات سورية- دوار الموت: رحلة العودة إلى مدينة الطفولة حلب
١ أكتوبر ٢٠١٢يتوقف البولمان (الباص) بشكل مباغت قبل الوصول إلى "الراموسة" محطة حلب، ويعلن السائق عن لحظة الوصول بكلمته المعتادة "الحمد الله على السلامة يا شباب". سألته أين نحن؟ ألن تكمل الرحلة لتوصلنا إلى محطة البولمان؟، ضحك مستغرباً يسألني: "منذ متى لم تأت إلى حلب، المحطةمغلقة، والمنطقة هناك غير آمنة، انظري حولك كل البولمانات القادمة إلى حلب تنتهي رحلتها هنا في دوار الموت".
بعد عام تقريباً على غيابي عن مدينة طفولتي، أعود إليها مجدداً في زيارة سريعة، وكانت المفارقة بالنسبة لي أن أتعرف على دوار الموت عن قرب في وقت تشهد فيه حلب قتامة جحيم الموت فعلاً.
كانت وسيلة النقل الوحيدة المتوفرة في هذا المكان المنعزل عن المدينة هي سيارات الأجرة العمومية "الصفراء في سوريا"، إضافة إلى سيارات خاصة قرر أصحابها أن يوظفوها كسيارات للأجرة، بإضافة صغيرة وهي عبارة عن ورقة كتب عليها "TAXI".
دفعني الفضول لاستئجار إحدى هذه السيارات الخاصة. وبعد أن انطلقنا نحو وجهتنا سألت السائق، لماذا تعمل هذه السيارة لتوصيل الطلبات العمومية فرد بحسرة: "حلب تخلو من أي شكل للنظام، و شرطة المرور بات من النادر تواجدهم في المنطقة، كما أن الميكروباصات وباصات النقل الداخلي كلها توقفت عن العمل، إضافة إلى أن الشركة الخاصة التي كنت أعمل فيها أغلقت أبوابها وبت دون عمل، وعليَّ جني بعض المال كي تبقى أسرتي على قيد الحياة".
الشوارع تبدو مهجورة تماماً، لا وجود للحواجز الأمنية، أحياء كثيرة مدمرة، أما ما تبقى من مبانيها يروي قصص حرائق اشتعلت فيها وقذائف هبطت عليها، أما سكانها لا أثر يدل عليهم، وأصوات المدافع تسمع من كل مكان، مع طيران يحلق ويقصف باستمرار، هنا تحديد الموقع إن كان قريباً ليس بالأمر الصعب، فألسنة اللهب والدخان الأسود المتصاعد يدل على مكان الحدث ليشير إلى بناءٍ ما يحترق.
طريق المتحلق، وهو المكان الذي اعتاد المجتمع الحلبي التوجه إليه كل يوم جمعة لقضاء العطلة الأسبوعية، حيث كانت كل عائلة تجلب معها غطاءً صغيرا يفترش الأرض، ومئات العائلات التي لا تعرف بعضها تجتمع على امتداد الطريق ذاته يتناولون عشاءهم من ثم تبدأ سهرة "صباحية" حتى الفجر على صوت أراغيل وضحكات تطفو في الأفق اختلف كثيرا. اليوم كان مشهد الازدحام ذاته، لكن العائلات التي افترشت الأرض لم تكن في عطلة، بل مقيمة، واستبدلت غطاء الأرض بخيم صغيرة جداً، تستوعب بشكل سريالي عائلة كاملة، على الطريق العام ولا حواجز أو فواصل بين الخيم سوى بعض الأشجار.
كنت في طريقي متجهة إلى حي "الفرقان" وهو أحد الأحياء الراقية في محافظة حلب، سكانه من الطبقة الثرية، وكونه مصنف في مجلس المحافظة "حي من الدرجة الأولى" اعتدته يخلو من أي سوق أو حتى من "محل بيع فلافل" كي لا يتأثر سكانه المخمليين من رائحة الزيت المحروق. كانت المفاجأة أن هذا الحي تحول إلى سوق شعبي، تملئ شوارعه الرئيسية بسطات الخصار والفاكهة واللحم المشوي والفلافل والبيض المسلوق، وكل ما يمكن توفره في سوق شعبي، ذلك كون الحي بات الملجأ الوحيد الآمن تقريباً للنازحين من مختلف مناطق حلب، التي تعرضت للدمار، كما تحول مبنى المدينة الجامعية "وهو كتلة مباني مخصصة للسكن الداخلي لطلاب الجامعة"، والمدارس الموجودة في المنطقة إلى مخيمات للنازحين.
التقيت "ربى" صديقتي أمام مدخل المدينة الجامعية، بعد عناق وبعض الفرح للقاء، تحدثنا عن الوضع المعيشي في حلب، وكان التحول الطارئ في نمط الحياة الهادئة جداً في حيهم إلى حياة صاخبة لا تهدأ، تعلو فيها أصوات الباعة المتجولين والأطفال إلى جانب نساء انتشرن بين المباني السكنية يتسولون بحثاً عن حليب لأطفالهم وبعض الخبز، بعد أن فقدوا كل أمل بالعودة إلى منزل يأويهم وعمل ربما كان أحد أفراد العائلة يأمن من خلاله قوتهم اليومي. وتقول ربى صديقتي: "الفرقان، شهد مظاهرات عدة، وإذا مررنا الآن في شوارعه الفرعية ستجدين الشعارات المنددة بالنظام، كيف تراشقت على جدرانه وأرصفته، كما أن أهالي هذا الحي من الداعمين الحقيقيين للثورة على الصعيدين العسكري والمدني، طبعاً اقتصر دعمهم على الأغلب على تقديم المساعدات المالية الكبيرة".
ودعت ربى لأستقل مجددا سيارة أجرة وكانت وجهتي "دوار الشعار" بعد انتظار أكثر من نصف ساعة ورفض أكثر من عشرة سيارات مرت إيصالي إلى العنوان، أقدم أحد السائقين على الموافقة لكن بعد أن اشترط مبلغ 1000 ليرة سورية بينما كان العداد لا يتجاوز 100 ليرة لنفس الرحلة، وافقت سعيدة للانطلاق، قبل الوصول بأمتار عدة سقطت قذيفة مروحية أمامنا، وبدأ السائق بشتمي مذعوراً ليعود أدراجه، لكن ما لم أتوقعه أنه لدى وصولنا لأحد الأحياء المهجورة أيضاً، طلب مني النزول كوني كنت سبباً لاحتمال فقدانه حياته، نزلت وبدأت رحلة المشي في حي لا ملامح له فالطرق عبارة عن أكوام من الحجر، والمباني منها ما سوي بالأرض ومنها ما بقي دون واجهة، كان مشهد الدمار لا يصدق، لم يكن أمامي إلا البحث عن أحد يدلني على طريق للعودة، بعد أن حاولت استخدام هاتفي المحمول واكتشفت أن الشبكة مفقودة.
أمضي مذهولة في مدينة طفولتي، لكن صوت المروحية القريبة من الأرض، ومحاولتي الدائمة للبحث راكضة عن أماكن غير مكشوفة أعبر منها كان يمنعني عن شرود كان لابد منه أمام شبح المدينة هذا. وبعد مضي دقائق عدة وصلت لحاجز للجيش الحر "كتائب المعارضة المسلحة" أسرعت نحوهم وشرحت ما حل بي طالبة منهم المساعدة، وأكدت لهم أني صحفية بعد أن ذكرت له بعض الأسماء من كتائب الجيش الحر في حلب التي التقيتها سابقاً، طلب مني أحدهم انتظاره قرب الحاجز مع بقية عناصر الكتيبة وقال "هلئ بشوف القصة".
غاب العنصر قليلاً من ثم عاد مع عنصر آخر مستقلاً سيارة كانت لأحد الأفرع الأمنية وباتت من أملاك كتيبتهم، وأخبرني أنه سيوصلني إلى العنوان الذي أريد. وبعد أن تجاوزنا لذاك الشارع وصلنا إلى مكانٍ أعرفه جيداً مازال محافظاً على جدرانه، إنه مبنى "دار المسنين الأرمن". حينها علمت أن هذا الحي المخفي المعالم هو "بستان الباشا" الحي الفقير المتواضع، وعلمت أن المنطقة ليست مهجورة تماماً، بعد أن لمحت على أحد شبابيك دار المسنين سيدة تبدو في السبعين من عمرها تقف متأملة الإطلالة الحديثة العهد لنافذتها.