حين تصبح مساعدات التنمية سلاحا لحل مشاكل الأمن والهجرة!
١٩ يناير ٢٠١٧تطور جديد شهده ملف الجدل بين ألمانيا والبلدان المغاربية حول موضوع مساعدات التنمية والهجرة. وزير التنمية والتعاون الألماني غيرد مولر طرح الاربعاء 18 يناير (كانون الثاني) 2017 مشروع تعاون جديد مع القارة الإفريقية، وأطلق عليه"مشروع مارشال لتنمية إفريقيا"، ويهدف إلى مساعدة القارة السمراء على مواجهة مشاكلها الاقتصادية والاجتماعية. ويبدو المشروع كأسلوب وقائي لمكافحة الفقر والآفات التي تتسبب في الهجرة نحو أوروبا.
ويأتي المشروع الذي اقترحه الوزير مولر كتتويج لخطوات تقوم بها ألمانيا في السنوات القليلة الأخيرة باتجاه تقوية استثماراتها وصادراتها في القارة الإفريقية. بيد أن الظروف الحالية تجعل الأضواء مركزة على جانب من هذا المشروع، ويتعلق الأمر تحديدا بفكرة إقامة سوق مشتركة بين الاتحاد الأوروبي وبلدان شمال افريقيا، يشمل البلدان المغاربية بالاضافة إلى مصر.
ويبدو طرح هذه الفكرة في الوقت الراهن بمثابة محاولة من حكومة المستشارة ميركل لإخراج العلاقات بين ألمانيا والبلدان المغاربية من فخ التجاذبات، التي تخيم عليها منذ ظهور أزمة اللاجئين وملف التعاون الأمني ضد الإرهاب، والتي ازدادت حدتها بعد الاشتباه في التونسي أنيس العامري في تنفيذ إعتداء برلين يوم 19 ديسمبر كانون الأول الماضي.
نظرة خاصة إلى حالة البلدان المغاربية
العنصر المشترك بين "مشروع مارشال إفريقيا" و"السوق المشتركة" مع بلدان شمال افريقيا، هو ما أشار إليه الوزير مولر عندما أكد أن القارة السمراء تواجه تحديات في ضمان مصادر التغذية والطاقة ومناصب العمل للشباب، أما أوجه الاختلاف فتكمن بالأساس على المستوى السياسي والمؤسساتي.
فعلى المستوى المؤسساتي تتركز العلاقات الألمانية مع بلدان جنوب الساحل والصحراء الإفريقية في الطابع الثنائي، بينما تأخذ العلاقات مع البلدان المغاربية طابعا أكثر تعقيدا بحكم وجود اتفاقيات شراكة موقعة بين هذه الدول والاتحاد الأوروبي من جهة، ووجود علاقات ثنائية مكثفة اقتصاديا وسياسيا وأمنيا مع ألمانيا، من جهة ثانية.
أما على المستوى السياسي، فان علاقات ألمانيا مع البلدان المغاربية تكتسي منذ سنة على الأقل بعض الاضطرابات بسبب مسألتي الهجرة غير الشرعية والأمن. وقد تصاعدت حدة الجدل بين الجانبين الألماني والمغاربي حول مسائل ترحيل آلاف اللاجئين المغاربيين الذين تُرفض طلبات لجوئهم ومسألة التعاون في مكافحة الارهاب، وذلك على خلفية حادثتي الإعتداءات الجنسية الجماعية في ليلة رأس السنة 2015/2016 التي اتهم شبان مهاجرون مغاربيون بارتكابها، والاعتداء الارهابي على سوق لعيد الميلاد في برلين في ديمسبر كانون أول الماضي، بالاضافة إلى ظهور أسماء متطرفين إسلاميين ينحدرون من بلدان مغاربية وينشطون لحساب شبكات إرهابية في ألمانيا وأوروبا بشكل عام.
نبرة غير مسبوقة
ومن النادر في السياسة الخارجية الألمانية، أن تلجأ برلين للتلويح باستخدام عقوبات إقتصادية، لكن أصوات عديدة سياسية وإعلامية ارتفعت في ألمانيا مطالبة باتخاذ عقوبات اقتصادية ضد الدول المغاربية التي تحجم عن التعاون في ملفي الهجرة والأمن.
وكانت برلين عرضت على البلدان المغاربية الثلاث: المغرب والجزائر وتونس، اتفاقيات لتصنيفها كدول آمنة مقابل تحمل هذه الأخيرة مسؤولياتها بالكامل في استقبال مواطنيها الذين ترفض طلبات لجوئهم. وجاء ذلك العرض أثناء جولة قام بها وزير الداخلية توماس دي ميزييرإلى المنطقة المغاربية في فيبراير(شباط) العام الماضي. كما قدمت ألمانيا في هذا السياق اقتراحات بتقوية المساعدات التنموية لهذه البلدان لمساعدة الشباب فيها على إيجاد فرص العمل وفتح آفاق للاستقرار في بلدانهم وعدم المجازفة بالهجرة غير الشرعية إلى أوروبا.
بيد أن التعاون في موضوع ترحيل اللاجئين شهد عثرات من جديد رغم تعهد العواصم المغاربية - بدرجات متفاوتة - بالتعاون. كما أن وقوع إعتداءات إرهابية في ألمانيا وأوروبا، وتورط عناصر مغاربية فيها، أعاد الأمور إلى نقطة الصفر، وجعل حكومة المستشارة ميركل تحت وطأة ضغوط داخلية جديدة. ويرصد محللون من خلال الطريقة التي تداول بها الرأي العام في ألمانيا قضية ما يُعرف بـ "النافري" Nafris (وصف أطلقته شرطة كولونيا على شبان مغاربيين ذوي سوابق إجرامية)، مؤشرات على أن الجدل حول هذه القضايا قد يزداد حدة وتعقيدا في ظل الاستقطاب السياسي والإعلامي والمخاوف من استثمار اليمين الشعبوي لورقة الأمن والهجرة في الانتخابات المقبلة هذا العام.
حجج المدافعين عن استخدام سلاح الضغط الاقتصادي
ويستند دعاة فرض عقوبات اقتصادية على الدول "غير المتعاونة" إلى حجج منها، أن الأولوية يتعين أن تعطى لأمن المواطنين الألمان، ومن ثم وجب رفع وتيرة الضغوط على تلك الدول لحملها على القبول بمقتضيات التعاون لترحيل الأشخاص الذين يوجدون في وضعية غير قانونية وخصوصا الذين يشكلون خطرا على الأمن في ألمانيا، ويُنظر لحالة فشل ترحيل أنيس العامري بسبب عدم تعاون سلطات بلده تونس، كحالة"لا يمكن الدفاع عنها" كما يقول وزير العدل هايكو ماس.
ويتذمر معلقون كثيرون في وسائل الإعلام الألمانية من عدم جدوى المفاوضات الطويلة التي يخوضها وزير الداخلية توماس دو ميزيير مع العواصم المغاربية، ويعتقد ساسة ألمان، ضمنهم مسؤولين في حزب المستشارة ميركل، أن "التهديد بوقف المساعدات أو تقليصها يمكن أن يساعد في حل المشاكل" كما يقول شتيفان ماير المتحدث باسم الفريق النيابي للاتحاد المسيحي الديمقراطي.
وحتى بعض المسؤولين في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الشريك في حكومة ميركل، يرون أنه لا يمكن تحمل وضع تبدو فيه "ألمانيا وكأنها تتسول تعاون دول معينة" من أجل حماية أمنها، وهو ما عبر عنه صراحة وزير العدل هايكو ماس، وأشار إليه نائب المستشارة وزير الاقتصاد زيغمار غابرييل زعيم الحزب الاشتراكي الديمقراطي، حينما قال"ليس هنالك مساعدات بدون مقابل".
بيد أن بعض الخبراء يعتقدون أن استخدام الضغوط الاقتصادية وإن كانت وسيلة مشروعة في العلاقات بين الدول الا أنها قد لا تكون ناجعة، خصوصا اذا حادت عن الهدف المقصود منها. ولذلك فان المطلوب، برأي دير ماسنار مدير المعهد الألماني لسياسات التنمية، أن تكون العقوبات موجهة ضد الحكومات.
"وسيلة غير مجدية"
معارضو فكرة استخدام المساعدات التنموية كسلاح للضغط أو العقوبات ضد الدول التي لا تتعاون في مسألتي الهجرة والأمن، ينطلقون في حججهم من سؤال جوهري: من هو المقصود بالمساعدات التنموية؟ أليست الشعوب أو تحديدا مناطق فقيرة توجه إليها المساعدات لفتح آفاق وفرص لشبابها كي يستقروا في بلدهم بدل المجازفة وركوب رحلات الموت عبر البحر الأبيض المتوسط نحو أوروبا؟
ففي تونس والمغرب تقدم ألمانيا مساعدات تنموية لمناطق فقيرة، وهي مناطق ترتفع فيها معدلات الفقر في صفوف الشباب وخصوصا خريجي الجامعات إلى أكثر من 30 في المائة. كما تستفيد قطاعات اجتماعية مثل النساء والحرفيين وأصحاب المهن البسيطة والمتوسطة من برامج مساعدات وتكوين تقدمها ألمانيا ضمن مساعاتها التنموية التي تشمل أيضا قطاعات الطاقة والبيئة.
وفي حال وقف المساعدات أو تقليصها، فمن المرجح أن تكون النتائج عكسية، اذ لن تؤدي سوى إلى مزيد من تفاقم المشاكل الاجتماعية.فبالنسبة لتونس مثلا، التي تعيش أزمة إقتصادية، وتوجد بجوار ليبيا المضطربة، ستزداد العراقيل أمام ديمقراطيتها الناشئة التي استثمرت ألمانيا طيلة السنوات الست الماضية الكثير من أجل مساعدتها على شق طريقها نحو الاستقرار.
وقد اُستقبلت تصريحات الرئيس الباجي قايد السبسي التي أكد فيها أن "تونس ستوفي التزاماتها وتعهداتها مع شركائها الأوروبيين وخصوصا ألمانيا" بارتياح ملحوظ في برلين خصوصا في أوساط المدافعين عن فكرة الاستمرار في مساعدة الدول المغاربية.
أما الجزائر التي لا تعتمد كثيرا على مساعدات تنموية من ألمانيا، فان الحديث بشأن ضغوط إقتصادية عليها قد لا يكون ذا مغزى أصلا. وحتى المغرب الذي يعتمد مثله مثل تونس على المساعدات الألمانية، فان تشجيعه على التعاون قد يكون أكثر فعالية، خصوصا أنه يشكل حجر زاوية في الاستقرار جنوب المتوسط وبغرب أفريقيا، ويبدو التعاون معه في قضايا الأمن ومكافحة الإرهاب مفيدا للدول الأوروبية، كما أنه يلعب حاليا دور حصن غربي للقارة العجوز في مواجهة الهجرة غير الشرعية.
ويقف في صدارة المدافعين عن هذه الفكرة، وزير التنمية الاتحادي غيرد مولر، الذي ينتمي للحزب المسيحي الاجتماعي البافاري، الشقيق لحزب المستشارة ميركل. وهو يرى أن وقف أو تقليص المساعدات لن يؤدي سوى إلى تعقيد المشاكل وخلق بؤر عدم استقرار جديدة في دول مجاورة للاتحاد الأوروبي. ويؤيده زميله وزير المالية فولفغانغ شويبله(حزب ميركل المسيحي الديمقراطي)، الذي يؤكد أن "التعاون أمر لا يمكن فرضه" بل يأتي نتيجة التزام متبادل، وبأن شطب المساعدات لن يجلب حلا للمشاكل. كما يرى مسؤولو وزارة الخارجية التي يقودها الاشتراكي الديمقراطي، فرانك فالتر شتاينماير، أن هذه المسألة "أكثر تعقيدا مما يُتصور" وأن حلها لا يمكن أن يتحقق بمجرد شطب أو تقليص مساعدات تنمية.
ومن هنا يدافع ساسة ألمان ومسؤولو منظمات إنسانية وكنسية عن سياسة "أكثر إنسانية" تجاه القارة الافريقية برمتها، وضمنها دول شمال افريقيا، سياسة تهدف إلى مساعدة تلك البلدان على التحكم في الهجرة غير الشرعية وأمواج اللاجئين التي يتدفق منها سنويا عشرات الآلاف على القارة الأوروبية. وتبدو فكرة إقامة مراكز استقبال للاجئين في دول مثل تونس ومصر، خطة مغرية لعدد من المسؤولين الألمان، ولذلك فان تأكيد الوزير غيرد مولر على فكرة إقامة سوق مشتركة مع بلدان شمال افريقيا، بما فيها مصر، نابعة من الاهتمام بإدماج مصر في إطار تعاون متعدد الأطراف مع الدول التي تشكل حزاما أمنيا للجنوب الأوروبي.
الكاتب: منصف السليمي