وجهة نظر: كتونسي في ألمانيا..هل عليَّ أن أشعر بالعار؟
٢٣ ديسمبر ٢٠١٦الصدمة الأولى حدثت عندما علمت أن واحداً من أشهر أسواق عيد الميلاد في قلب العاصمة برلين، كان هدفا لاعتداء جبان استُخدمت فيه شاحنةٌ ضخمة كسلاح، فقامت بدهس زوار السوق مخلّفةً عشرات القتلى والجرحي.
قبل أيام قليلة من الحادث كنت بصدد الحوار مع أصدقاء مغاربيين حول مرور عام على الاعتداءات الجنسية، التي وقعت في رأس السنة في كولونيا، وتورط فيها عدد من الشبان المغاربيين، وكيف يمكن المساهمة في تصحيح صورة الشباب المغاربي في ألمانيا، التي تشوهت بسبب تلك الاعتداءات المأساوية.
وها هو خبر جديد ينزل كالصاعقة: تونسي مشتبه به في تنفيذ أسوأ اعتداء إرهابي تتعرض له ألمانيا. لا بل إنه نُفذ بواسطة شاحنة، في مشهد يعيد للأذهان ما حدث في مدينة نيس الفرنسية.
كنت قد زرت تلك المدينة الفرنسية في عطلة الصيف الماضي، ووقفت مع أفراد من أسرتي عند مكان الحادث الرهيب لنترحم على الضحايا. وكان ابني ذو التسعة أعوام يسألني، ما الذي حدث هنا؟ وأعترف أنني وجدت صعوبة كبيرة في شرح ما أمكن شرحه له.
أما اليوم فتبدو المهمة أصعب، فقد اعتدت على مرافقة ابني في الصباح الباكر إلى المدرسة في بون، وعادة ما أتبادل معه الحديث حول شؤون دراسته وصداقاته. يفاخر ابني عادة أصدقاءه بأنه يزور خلال إجازة الصيف شواطئ جميلة في البلد الأصلي لوالده وبأنه في عز الشتاء ينعم الناس هناك بدفء الشمس.
لكن، ماذا لو نقل لي ابني سؤال أحد أقرانه عما إذا كان التونسي، الذي ارتكب أسوأ اعتداء إرهابي ضد مواطنين ألمان، يعني له شيئا؟ هل سيكون على الطفل المولود في ألمانيا، والذي يحمل جنسيتها، أن يجيب ببساطة أنه ألماني فقط؟ أم سيواصل القول إنني ألماني من أسرة تونسية؟
لا يتوفر ابني الصغير على الخلفية الكافية ربما للذهاب أبعد في هذا الموضوع، لكن ابنتي وابني الآخر، البالغين، الذين لم يولدا في ألمانيا، ويحملان جنسيتها، وبملامحهما وخلفيتهما المغاربية، يلتقيان أقرانهما يوميا في الجامعة ويواجهان السؤال بشكل أكثر حدة.
علمت بخبر الاعتداء الإرهابي على سوق عيد الميلاد، في المساء وكنت مع زوجتي، أهم بالخلود للاسترخاء في البيت. هذا الخبر أثار الرعب في البيت؛ فقد وقع الحادث على مقربة من سكن ابنتي، التي أنهت لتوها دراستها الجامعية في برلين، وهي من رواد سوق عيد الميلاد الذي تم استهدافه. كان علينا، زوجتي وأنا، أن نرد على اتصالات هاتفية كثيرة، ولكننا كنا مرعوبين ومتوترين، نريد أولا أن نعرف هل ابنتنا بسلام؟
علمنا أنها بسلام وتنفسنا الصعداء. والآن بعيدا عن متابعة الحدث وضغوط العمل المرتبة عليه، يجب عليّ ترتيبُ الأفكار لكي أتعامل مع حادث يثير بداخلي مشاعر وردود فعل غير مسبوقة.
خلال الأسبوع الماضي، كان ابني فخورا بتقديم بحث له في جامعة آخن، حول تونس كنموذج لتجربة انتقال ديمقراطي سلمي، في منطقة مضطربة، ولقي إشادة من أساتذته، الذين بدوا وكأنهم متحمسين أكثر منه في الإشادة بالتجربة التونسية، وكيف نالت فيها هيئات من المجتمع المدني جائزة نوبل للسلام. لكنه اليوم يواجه سيلا من أسئلة أصدقائه، عن مشاعره وآرائه وانطباعاته إزاء ما حدث في برلين.
يبدو ابني تحت ضغط غير معهود بالنسبة له، وعليه أن يوضح أنه تونسي لكنه ليس مثل ذلك، الذي تبث وسائل الإعلام صوره، وأن ذلك الشخص متطرف ولا يمثل المجتمع الذي ينحدر منه. لكن هل تكفي الكلمات في محيطه وما يدونه على فيسبوك، لتبديد المخاوف والنظرات الحادة التي يشعر بها وهو في محطة القطار أو في الشارع وفي الحي الذي يسكن فيه؟
هل يكفي شاب مثله بأن يكون مندمجا بشكل "جيد" في حياته الدراسية أو المهنية أو في علاقاته مع أصدقائه والمحيطين به؟ أم أنه مطالب بأن يفعل شيئا إضافيا لمحو وصمة الإرهاب والتطرف التي ألحقها شخص متطرف بأبناء بلده سواء كانوا فقط تونسيين أو مغاربيين أو عربا؟
هل يجب على شاب في العشرينات من عمره، مقبل على الحياة، مندمج في محيطه الاجتماعي، أن يعيد ترتيب الأوراق، بدءا بتفقد محيطه وفحص علاقاته اليومية، عسى أن يكون في إحدى طياتها شكل من أشكال التطرف أو شخص يشبه بقليل أو كثير ذلك الشاب المشتبه بتنفيذ إعتداء برلين؟
في الأعوام الأخيرة وخصوصا بعد الثورة، قدمت ألمانيا دعما لتونس بأشكال عديدة، ومنها استقبال مئات الطلاب في جامعاتها. لكن الذين يصلون إلى ألمانيا، يجدون قدرا ضعيفا من الرعاية الاجتماعية والثقافية، بسبب ضعف دور المجتمع المدني وغياب جمعيات تونسية نشيطة. كما أن تراجع دور مؤسسات الدولة التونسية في دعم الطلاب المبتعثين، يضع هؤلاء الشبان في حالات كثيرة في مأزق.
أسرهم، ورغم قلة الإمكانيات، تكافح من أجل سد حاجياتهم المادية، لكنها قد لا تفكر في أن متطلبات أخرى نفسية واجتماعية وثقافية هي أكثر إلحاحا. وبأن الفراغ في هذا الحقل، تسده أطراف أخرى، تبدأ بمساعدة اجتماعية، ودعوة إلى حضور حفل اجتماعي، ثم تقديم مساعدة مادية أو اجتماعية، وصولا إلى استدراج الشاب إلى "حضن" هو أشبه ما يكون بالسم في العسل. ففي مسجد أو في دائرة مغلقة ببيت أو رحلة صغيرة لإحدى المدن الألمانية أو الأوروبية أو حتى رحلة في الشبكة العنكبوتية، قد تتغير أمور كثيرة في حياة شاب في لحظة حساسة من عمره.
يقترب موعد عيد ميلاد المسيح، وتستعد ابنتي لحضور احتفال أسرة صديقتها الألمانية بالعيد في برلين، "الأمر مدهش إنني متشوقة لأن أعيش تقاليد وطقوس عيد الميلاد وأتقاسم أجواءها مع أسرة صديقتي"، تقول لي ابنتي قبل أسبوع.
لكن اليوم تبدو الفتاة مرتبكة، تطاردها أسئلة كثيرة تتوقع أن يطرحها عليها مضيفوها، وعليها أولا أن تدلي برأيها فيما حدث، وماذا تعرف عن هذا الصنف من "التونسيين"؟ بعض تلك الأسئلة تلقتها من أحد مؤطريها في التدريب، وهو يرى أن أئمة المساجد ليس فقط في ألمانيا، بل أيضا في تونس، عليهم واجب أن يصدحوا بصوت عال أن الدين الإسلامي يرفض بقوة ما حدث في برلين.
أنيس العامري، عندما غادر تونس وهو في سن المراهقة، ربما كان مثل الكثيرين من الشبان الذين يركبون أهوال الهجرة غير الشرعية عبر البحر، يحلمون بـ "الفردوس" الأوروبي، الذي ما تزال وسائل الإعلام المحلية في بلداننا تنفخ فيها. لكن معاناة أنيس في سجن باليرمو الإيطالي ودروب البحث المستحيل عن اللجوء في أوروبا وصولا إلى ألمانيا، قد تكون غيرت وجهته، عندما تلقفه من يزرع في رأسه حلما من نوع آخر بـ"الجنة" وجعله يتوهم أن قتل مواطنين أبرياء من ديانة أخرى، سيفتح له أبواب الجنة. وهنا قد يكمن الجواب عن سؤال مؤطر ابنتي، بصدد مسؤولية أئمة المساجد في أن يوضحوا للشباب بأن من يرتكب اعتداء إرهابيا هو ليس فقط مدانا، بل سيذهب للجحيم وليس إلى الجنة.
أخبرتني ابنتي بالأمس، بأنها زارت سوق عيد الميلاد البرليني، بعد إعادة فتحه، ووقفت على الأجواء الحزينة هناك وشاهدت كيف أن جمهوره تغير، وأن عدد رجال الإعلام والشرطة يفوق الزوار العاديين.
تحاول ابنتي مثلها مثل سكان برلين تجاوز الكابوس استعدادا لعيد الميلاد واستقبال عام جديد. عام سأواجه فيه بدوري مهمة صعبة، كيف يمكنني بصفتي تونسيا في ألمانيا، أن أُصْلح ولو قليلا مما أفسدته جريمة الاعتداء على سوق عيد الميلاد البرليني، وقبلها بعام فضيحة الاعتداءات الجنسية على النساء في المحطة الرئيسية بكولونيا.
لكن دعني أسأل نفسي، كما أسأل صديقاتي وأصدقائي التونسيين والمغاربيين وحتى العرب، الذين لا يتوقفون عن التذمر في مجالسهم الخاصة وفي مواقع التواصل الاجتماعي من تداعيات حادث برلين، أسألهم عن أوضاعهم في ألمانيا، وبعضهم يزعم بوجود "مؤامرة" على المسلمين أو حتى على اللاجئين المغاربيين لتسهيل ترحيلهم! وصولا إلى مخاوفهم من انعكاسات سلبية على صورتهم في الإعلام والمجتمع الألمانيين، وتوظيف الحادث من طرف جماعات يمينية شعبوية ومصابين بالإسلاموفوبيا.
أسال نفسي كما أسأل صديقاتي وأصدقائي التونسيين والمغاربيين والعرب: لماذا نتوقف عند "ويل للمصلين" ونردد فقط المخاوف؟ أليس في ذلك ضربا من الأنانية والبحث غير المجدي عن خلاص فردي؟ لماذا لا نعيد ترتيب الأوراق ونتفحص محيطنا جيدا، كل من موقعه؟ هل يوجد بيننا وفي حياتنا اليومية شيء من أنيس عامري؟ أليس أولى أن يكنس كل منا أمام باب بيته؟ هل نبذل ما يكفي لينشأ أبناؤنا على قواعد وقيم العيش المشترك والشعور بأنهم جزء من هذا البلد أو على الأقل احترام قوانينه ودستوره؟ أليس أجدر بنا أن نعمل على تغيير السلبيات كي نتفادى تكرار ما حدث؟
عند ذلك فقط يمكننا أن نمحو وصمة العار، التي لا نحب أن تلتصق بنا. عند ذلك فقط ننتظر نتيجة إيجابية على الصورة المتداولة في وسائل الإعلام. وعند ذلك فقط سيرتاح ضميرنا؛ لأننا سنشعر بأننا نرد الجميل للبلد الذي استقبلنا وفتح لنا فرصة حياة كريمة. هذا البلد الذي يتصدر الدول التي تدعم التنمية والانتقال الديمقراطي في تونس.
الكاتب: منصف السليمي