القضاء المصري: ساحة للتجاذبات الحماسية وسط غياب الحلول التوافقية
١٩ سبتمبر ٢٠١٣يواجه النائب السابق لرئيس الجمهورية في مصر محمد البرادعي الخميس (19 أيلول/ سبتمبر 2013) محاكمة بتهمة "خيانة الأمانة" بسبب قراره الاستقالة احتجاجاً على سقوط قتلى في العملية، التي قام بها الجيش لفض اعتصام أنصار الرئيس الإسلامي المعزول محمد مرسي في رابعة العدوية بالقوة. ورفع الدعوى القضائية ضد البرادعي سيد عتيق، أستاذ القانون في جامعة حلوان. وقال عتيق في تصريحات لوكالة رويترز إن المحاكمة قد تنتهي بالحكم على البراعي، حامل جائزة نوبل للسلام، بثلاث سنوات سجن.
هذه القضية تذكر بقضايا أخرى مشابهة في زمن حكم الرئيس الإسلامي محمد مرسي، الذي عزله الجيش مطلع تموز/ يوليو. إذ رفع أنصار مرسي الكثير من الدعوى ضد أنصار المعارضة آنذاك وضد ناشطين وحتى صحافيين ومقدمي برامج في القنوات المصرية. ورغم اختلاف هذه الدعاوى في تفاصيلها إلا أن التهم كانت متشابهة تقريبا: إهانة الرئيس، تعريض علاقات البلد الخارجية للخطر أو السخرية من الإسلام.
قضايا تافهة
يرى أستاذ القانون في جامعة إيرلانغن ماتياس روهه أن هذه القضايا، كتلك التي يُلاحق بها البرادعي الآن، "تبعث على الخجل في حقيقة الأمر". ويضيف روهه بالقول: "لا يمكنني تفسيرها إلا بذلك الفيض الوطني الغريب، الذي يهيمن في الوقت الراهن على جميع القوى السياسية في مصر، ومنها العلمانية أيضاً، حيث أصبح يُحتفى بالجيش كمنقذ للوطن".
وصحيح أن سمعة الجيش المصري مترسخة في الذاكرة الجماعية للشعب المصري، إلا أن روهه يرى أن "ذلك قد يكون صحيحاً في أوقات الحرب الماضية. لكن تاريخ العقود القليلة الماضية يوضح عكس ذلك". ويضيف أستاذ القانون الألماني بالقول: "غشيت هذا الفيض من المشاعر الوطنية الكثير من الحواس، ما يفتح الطريق أمام مثل هذه القضايا التي أراها مريبة من الناحية القانونية. فمن التافه جرجرة رجل مثل البراعي الآن إلى محاكمات من هذا النوع".
أما ناصر أمين، مدير المركز العربي لاستقلال القضاء في مصر، فيرى هو الآخر أن مثل "هذه القضايا التافهة مبعثها البحث عن الشهرة". ويشير إلى أن "الشكوى قدمها مواطن ضئيل القدرة القانونية، ودخلت في مجال العمل القضائي العادي. وبالقطع فإنه سوف لن يصدر أي حكم على البرادعي فيها. إنها تشبه تلك القضايا التي تُرفع على الممثلين والممثلات والمطربين والكتاب".
ثغرات في قضايا أكبر
وبينما ينشغل القضاء المصري بمثل هذه القضايا "التافهة"، فقد فشل القضاة والمحامون حتى الآن في معالجة حالات الفساد في زمن الرئيس الأسبق حسني مبارك، ناهيك عن الكشف على المسؤولية في قتل أكثر من 800 شخص في ثورة الـ25 يناير. فقد أُطلق سراح الدكتاتور السابق بعد نحو عامين وأربعة أشهر من الحبس الاحتياطي على ذمة التحقيق. عن ذلك يقول ماتياس روهه: "ما يلفت الانتباه فعلاً هو أن الأشخاص المتهمين بارتكاب جرائم فضيعة في زمن مبارك ضد الشعب المصري، يُعاد إطلاق سراحهم من جديد".
لكن أمين يعزو ذلك من جانبه إلى أن القضاة لا يجدون غطاء قانونياً عقابياً يستندون في الحكم عليه، "لذلك غالباً ما تخفق مثل هذه المحاكمات". ويضيف أمين بالقول: "محاكمة مبارك ورموز نظامه، وكذلك محاكمة رموز نظام الأخوان المسلمين مستقبلاً، لن تجدي نفعاً، لأنها تجري وفق القواعد والتشريعات المنظمة لإجراء المحاكمات الجنائية في مصر، ما ينطوي على إشكالية أنها لا تنظم أو تُعرف الجرائم ضد الإنسانية أو الجرائم الممنهجة، التي تركبها أنظمة الحكم ضد الشعوب".
ويشير مدير مركز استقلال القضاء إلى أن هذا النوع من الجرائم "غير موجود داخل الجسد التشريعي المصري وبالتالي يَجدُ القضاة أنفسهم أمام مأزق كبير في محاكمة مبارك وأركان نظامه".
اتفاقية المحكمة الجنائية
ومن أجل إيجاد التشريعات الخاصة بهذا النوع من المحاكمات "كي تكون هذه المحاكمات فاعلة، يجب على مصر الانضمام إلى اتفاقية المحكمة الجنائية، وهي اتفاقية روما لعام 1998". وهذه الاتفاقية تأخذ على عاتقها تنظيم المحكمة الجنائية الدولية باعتبارها محكمة مسؤولة عن جرائم الحرب والإبادة.
ومن أجل إجراء المساءلة والعفو عن من لم يتورط في أي قضايا ورفع الضرر عن الضحايا يؤكد أمين على "استحقاق إنشاء المفوضية العليا للعدالة الانتقالية، التي سوف تتولى فتح ملفات انتهاكات حقوق الإنسان الجسيمة في الماضي، أي في فترة حكم مبارك، وربما تذهب إلى فترة ما قبل مبارك".
غياب الحلول التوافقية
لكن تحقيق ذلك يبقى صعباً في الوقت الراهن في ظل الصراع المهيمن على مختلف الأصعدة في مصر، والذي لا يمكن للقضاء أن ينأى بنفسه عنه وجعله جزءا من هذا الصراع كما يقول ماتياس روهه. ويضيف روهه بالقول: "نجح القضاء في أن يجد في الجيش حليفاً قوياً، وهذا ما بدا واضحاً بعد انتخابات 2011، حيث تحزب القضاء ضد نظام الإخوان المسلمين".
في هذا الصراع يطغى عدم تقبل الحلول التوافقية، كما يرى أستاذ القانون الألماني، إذ "تفتقد كل التكتلات إلى قبول الضوابط والتوازنات الرقابية. إن فكرة ضرورة وجود موازين قوى مختلفة في دولة واحدة من أجل رقابة متبادلة، لم تترسخ بعد في القضاء المصري بشكل صحيح".