الاقتراض اللغوي عبر تاريخ اللغة الألمانية
١٧ أغسطس ٢٠٠٦تعتبر عملية الاقتراض اللغوي والتطور الدلالي للألفاظ ظاهرة صحية في مسيرة تطور أي لغة. وعبر مسيرة الاقتراض تكتسي الألفاظ دلالات جديدة تتلون بتلون العصور واختلاف المجتمعات والثقافات. وبوصف اللغة أداة للتبادل الاجتماعي والتلاقي الثقافي بين الحضارات لا غرابة أن نجد لغة ما تقترض لفظة من لغة أخرى وتدخل في نسيجها البنيوي والسياقي بعد أن تنصهر في القالب التركيبي والصرفي للغة الوافدة إليها. ولكن هذا لا يمنع من وجود ألفاظ حافظت على شكلها كما نقلت عليه من اللغة الأم دون أن تنصهر في اللغة الجديدة. وهناك أشكال متعددة لميكانيكية الاقتراض اللغوي التي يشكل الصراع اللغوي أحد مظاهر هذا الانتقال بالإضافة إلى الهجرة والاستعمار والحروب والتجارة.
اللغات تتصارع مع بعضها بعضا كما يتصارع البشر، ويكون نتاج ذلك إما السيطرة أو التقهقر أو التمازج و الاقتراض بين اللغتين أو التعايش معاً جنباً إلى جنب دون غالب أو مغلوب. ويتوقف ذلك على عوامل عدة منها: مدى احتكاك الشعبين الغازي والمغزو وحضارة كل منهما وطبيعة البناء اللغوي. ومن مظاهر التطور الدلالي تضمين المعنى اللغوي القديم معنىً دلاليا جديداً ، حتى يغدو المعنى الجديد بحكم الاستعمال اللغوي حقيقة معرفية في الإشارة إلى المعنى الجديد بدلاً من مدلوله القديم.
الألفاظ الألمانية لها حضور عالمي
ولما كانت اللغة كائنا حيا ينمو ويتطور للتعبير عن حاجات الجماعة التي تنطق بها وتنتقل من حضارة إلى حضارة كالنحلة التي تتنقل من ريحانة إلى ريحانة، فقد ظهر علم من علوم اللغة همه التأصيل اللغوي لهذه المفردات عبر ردها إلى أصولها وكذلك رصد مسار تطورها ومظاهر مدها وجزرها. وفي هذا الصدد اهتمت مجامع اللغة بتلك الظواهر، فانكبت على رصد ظاهرة الألفاظ والأساليب والتبادل اللغوي. واللغة الألمانية كغيرها من اللغات أثرت وتأثرت بغيرها. وعن هذا تقول الكاتبة المجرية تيريزا مورير، والتي تتخذ من ألمانيا موطنا لها، إنه من السهولة عليها "حفظ الكلمات الألمانية التي تشابه ألفاظا مجرية صوتا ومبنى"، في إشارة إلى مدى تأثير اللغة الألمانية على المجرية. ولكن يلاحظ أن اللغة المجرية اقترضت من الأسماء أكثر منه من الأفعال. وهذا الاقتراض من الأسماء ليس مستغربا، لاسيما وقد ارتبط بالعديد من المخترعات أو بالنشاطات الثقافية. مثلا كلمة 'Kindergarten' "روضة أطفال" أو كلمة "Blitzkrieg" "الحرب الخاطفة" توجد في لغات مختلفة إما لفظا أو دلالة.
ولاشك أن سيطرة اللغات في العالم ترتبط في كثير من الأحيان بحجم الثقل السياسي والنشاط الحضاري لأمة من الأمم. وعن سيطرة اللغة الإنجليزية، يقول البروفيسور بيتر لوبوك من قسم اللغة الألمانية في جامعة برلين: "سبب ذلك بالتأكيد يعود إلى قوة الولايات المتحدة الأمريكية التي جعلت من الإنجليزية اللغة الأولى في العالم". وعن اللغة الألمانية يقول: "رغم كونها لغة الفلاسفة، إلا أنّ صورتها قد تشوهت في العهد النازي."
مسابقة لغوية
أطلق معهد غوتة بالتعاون مع مجمع اللغة الألمانية مسابقة لجمع الكلمات الألمانية التي انتقلت إلى لغات أخرى. وعن هذا المشروع تقول كاترينا فون روكتشل من معهد غوتة: "من المهم للألمان معرفة أين استخدمت اللغة الألمانية وما السياق الذي انتقلت إليه إلى اللغات الأخرى وما المقاصد الدلالية التي اكتسبتها هذه الألفاظ. وكذلك مهم لنا أن نبين للعالم أن هناك ألفاظا ذات أصول ألمانية يتم استخدامها وتداولها من لغات عدة، الأمر الذي قد يزيد من فرص التواصل الاجتماعي والتلاقح الحضاري."
ولا شك أن استخدام اللغة الألمانية خارج ألمانيا ارتبط في كثير من مظاهره بحركات الهجرة الألمانية عبر الأزمان سواء إلى شرق أوروبا أو أمريكا الشمالية أو روسيا. وعن رحلة هذه الألفاظ إلى روسيا، يقول أوليج زين كوفيسكي من القسم الروسي في إذاعة برلين: "عندما جاء الغربيون إلينا جلبوا معهم العديد من الأمور التي لم تكن متوفرة في روسيا مما دفع المرء إلى تسميتها بأسمائها الأصلية. فمثلا كلمة "Butterbrot" "الخبز المنقع بالزبدة" ليست بالضرورة أن تكون بالزبدة وقد تكون بالسجق ولكن تبقى لتسمى "الخبز المنقع بالزبدة" كما وصلت إلينا من الألمان وإن اختلفنا معهم في الاستعمال."
رحلة عبر التاريخ
ومن الكلمات التي استوقفت الباحثين اللغويين الألمان كلمة "هامبورجر"، التي يقول عنها البروفيسور لوكو "عندما
رأى الأمريكيون ما نصنع باللحم المقلي ووضعه في رغيف من الخبز حاولوا فعل شيء من هذه الكلمة وتحليلها" لتصبح في النهاية ما نعرفه اليوم من أشكال الأكل السريع.
هذه المسابقة لا تهتم بانتقال الألفاظ فحسب، بل بالقصص التي نسجت حول نشأتها ورحلتها. هذه الألفاظ التي عبرت البحار والمحيطات من المفترض أن تصدر في كتاب في شهر أكتوبر/تشرين الأول يحكي قصة هجرتها وتطورها. وفي عصر التنمية الثقافية والعولمة وثورة المعرفة فإن اللغات تصبح أكثر تمازجا وأكثر افتراسا لبعضها البعض، ما لم تتحصن بمخزون تراثي وإرث حضاري كبير يتصدى لتسونامي الصراع اللغوي، ليبقى في النهاية الاقتراض اللغوي ظاهرة حسنة إن ظل في خيمة الاعتدال.