يوميات سورية - عيد بأي حال عدت يا عيد!
٢٠ أغسطس ٢٠١٢لم يكد التلفزيون الرسمي السوري ينتهي من إعلان أن يوم الأحد هو أول أيام عيد الفطر السعيد، حتى بدأت أصوات المدافع تملأ أرجاء العاصمة. بالطبع لم تكن أصوات هذه المدافع هي نفسها أصوات مدافع العيد التي اعتاد السوريون على سماعها في كل عام وهي تنطلق من جبل قاسيون مهنئة بقدوم عيد الفطر المبارك، بل كانت أصوات القذائف والانفجارات التي انطلقت باتجاه الجزء الجنوبي من دمشق. إلا أن أصوات القصف هذه، التي ربما اعتادها السكان بعدما تحولت إلى جزء من تفاصيل حياتهم اليومية، لم تمنع بعض العائلات من التوجه إلى أسواق دمشق الكبيرة لشراء بعض الحاجيات الأساسية، علّ ذلك يضفي بعضاً من مظاهر الفرح التي غابت بشكل كبير عن المدينة بسبب تدهور الوضع الأمني فيها. فلكل منا طقوسه الخاصة في استقبال يوم العيد.
أما عناصر الأمن المنتشرون بكثافة في دمشق فقد كانوا منهمكين في التحضيرات ليوم العيد، بطريقتهم الخاصة وطقوسهم أيضاً. فقد كانت أنظار العالم كلها تتجه نحو دمشق وتحديداً إلى مكان المسجد الذي سيصلي فيه الرئيس السوري بشار الأسد صلاة العيد كما جرت العادة. لكن هذه المرة لكل حركةمعنى رمزي، منذ أن اعتكف عن الظهور العلني في مكان عام إثر مقتل عدد من مساعديه الأمنيين في مبنى الأمن القومي بالروضة.
عندما دقت الساعة الحادية عشرة ليلاً، أي قبل صباح العيد، تلقيت اتصالاً من قريبتي ندى، التي تسكن في حي المهاجرين، لتخبرني بأن استنفاراً أمنياً كبيراً يحدث في محيط جامع "الحمد" على غير العادة، فيما يبدو وكأنه تحضير لهذا المسجد لكي يؤدي فيه الرئيس صلاة العيد. ندى ألحت علي أن أذهب إليها لأنها وحيدة في المنزل وخائفة جداً، ولا تريد أن تستقبل العيد هكذا دون وجود أي قريب حولها، خصوصاً في هذه الظروف التي تمر بها سوريا عموماً وعاصمة الأمويين خصوصاً.
استأذنت أمي وجازفت بالخروج والذهاب لبيت قريبتي والمبيت عندها لمواساتها من جهة ولمعرفة الأوضاع في الحي الحساس عن كثب من جهة أخرى. ومع اقترابي من الحي العريق كان العشرات من الجنود وعناصر الأمن يتوجهون إليه أيضاً متوزعين على مداخل الشوارع الفرعية للحي لتفتيش ليس فقط السيارات، وإنما المارة أيضاً. ليس هذا فحسب، بل قاموا بإجبار السكان على إخلاء القسم الشرقي من الحي من السيارات وإغلاق جميع المنافذ التي تؤدي إليه.
مرت ساعات الليل بطيئة في هذه الليلة التي لم تعرف الهدوء بسبب الانتشار الأمني الكثيف في المنطقة، وكذلك بسبب سماع أصوات القذائف والانفجارات التي كانت تأتي من بعيد، لكن تبدو وكأنها تسقط حولنا. عند الساعة الخامسة فجراً بدأ بعض الضباط بالإيعاز لبعض القناصة لكي يصعدوا على أسطح الأبنية المطلة على الحي لمراقبة المنطقة، كما بدأت بعض السيارات العسكرية المصفحة وناقلات الجند تمشط الحي، بعد أن نصبوا رشاشاتهم الثقيلة عليها.
في هذه الأثناء قطع صوت قريبتي ندى الصمت الذي كان يسود فيما كنا نراقب الوضع من على شرفة منزلها المطلة على الشارع الرئيسي للحي، بقولها: "الأمن مرتبك بشكل كبير وأي حركة غير اعتيادية من قبل السكان قد تكون نتائجها كارثية، فلو استطاعوا أن يخلو جميع أبنية الحي من السكان لما توانوا عن ذلك لحظة واحدة".
لم تكمل ندى حديثها حتى بدأت تصدح أصوات تكبيرات العيد من بعض المساجد القريبة معلنة اقتراب موعد صلاة عيد الفطر المبارك، إلا أنه سرعان ما توقفت هذه التكبيرات فجأة. فعلى الرغم من اعتبار هذه التكبيرات جزءا من صلاة العيد، التي يؤديها المسلمون عادة، إلا أن عناصر الأمن منعوا مؤذني المساجد القريبة من ترديدها، الأمر الذي أدى إلى إحجام معظم أهالي الحي عن التوجه لأداء صلاة العيد في ظل الاستنفار الأمني، الذي كان في المنطقة.
ولم تكد تنتهي صلاة العيد ويتفكك معها الطوق الأمني الشديد الذي لف أرجاء الحي حتى توجهت مع قريبتي ندى إلى إحدى المقابر لزيارة قبر والدها كما جرت عادة الدمشقيين في مثل هذا اليوم، ولأنها من طقوس العيد التي تلي الصلاة. لكننا فشلنا في زيارة قبر والد ندى لأن المقبرة كانت مغلقة، إذ انتشر عناصر الأمن على جميع أبوابها لمنع الزائرين من الدخول "لأسباب أمنية".
وفي طريق عودتنا للمنزل كانت ندى تحدثني عن الاتفاق الذي أجرته مع صديقاتها على مقاطعة مظاهر الاحتفال بالعيد من شراء للملابس الجديدة وتقديم الحلويات وزيارة الأقارب، معللة ذلك بأنه "لا مجال للاحتفال بالعيد في ظل هذه المآسي التي تعيشها البلاد، وإنفاق مصاريف الاحتفال بالعيد على إعالة الأسر النازحة وشراء الهدايا لأطفال الأسر المنكوبة".
كان صوت ندى يقطع الهدوء الذي كان مخيماً على معظم شوارع دمشق، الأمر الذي لم يعهده الدمشقيون في مثل هذه اليوم الذي تغص فيه الشوارع بالمارة وهم يتوجهون إلى زيارة أقاربهم وجيرانهم ليهنئوهم بقدوم العيد، وتضج الطرقات بضحكات الأطفال وهم يلعبون ويركبون المراجيح المنصوبة في معظم الشوارع. فالعيد فرصة لرسم الابتسامة على وجوههم، إلا أن معظم الأهالي أحجموا عن اصطحاب أطفالهم إلى الساحات الرئيسية التي خصصتها الحكومة لتجمع ألعاب الأطفال بسبب تردي الوضع الأمني.
والطريف في الأمر في هذا العيد أن وزارة الداخلية السورية أصدرت بياناً تحذر فيه المواطنين من استخدام الألعاب النارية في عيد الفطر. وزارة الداخلية أمرت السوريين بالامتناع عن إطلاق الألعاب والمفرقعات النارية أياً كانت الأسباب في الطرق وداخل المنازل والمحلات العامة وأماكن التجمعات "حرصاً على أمن المواطنين وسلامتهم". وكل من يخالف أوامر هذه الوزارة يعرض نفسه للمساءلة القانونية "بتهمة التعاون مع الجماعات المسلحة"، على حد تعبير وتفسير قريبتي ندى.
سوسن محروسة ـ دمشق
مراجعة: عماد غانم