مخاوف من الأسوأ.. مؤسسات إعلامية تونسية تقاوم من أجل البقاء
١٦ فبراير ٢٠٢٣يرتدي وجيه النمر شارة حمراء بينما يعكف على إعداد نشرة أخبار الظهر في غرفة التحرير براديو "شمس اف ام" وهو يحاول أن يلقي كافة الضغوط خلف ظهره ويستجمع تركيزه للانتهاء من إعداد النشرة.
يؤمن وجيه يوميا نشرة الأخبار على رأس كل ساعة في الفترة الممتدة من منتصف النهار وحتى السادسة مساء، وهو لا يملك مثل جل العاملين في المؤسسة، أي ضمانات حول ما إذا كان سيحصل على راتبه نهاية الشهر لإعالة زوجته وابنه.
يعود آخر مرتب حصل عليه الصحافيون إلى ما قبل ثلاثة أشهر، وهي ليست المرة الأولى التي تتعطل فيها أجورهم لكن اليوم باتوا في وضع أكثر تعقيدا في ظل أزمة اقتصادية خانقة تضرب البلاد وغلاء متفاقم لكلفة المعيشة مقابل تدحرج الإعلام فيما يبدو إلى آخر اهتمامات السلطة.
وعلى الرغم من الجيوب الخاوية وحالة الضيق والقلق اللتان تسيطران على أجواء العمل داخل الإذاعة، إلا أن وجيه يحتفظ بابتسامته ورحابة صدره بصفته أيضا عضو النقابة الأساسية داخل الإذاعة. وتحدث إلى DWعربية قائلا "الأجور متأخرة ولا يتمتع الصحفيون بالتغطيات الاجتماعية والصحية. أتلقى المساعدة من عائلتي لأجابه الوضع. لكن هناك من يعاني من مرض السرطان وملف علاجه معطل ومن لم يستطع دفع إيجار منزله.. عدة وضعيات صعبة".
مع ذلك لا يبدو وجيه في حالة يأس وهو يقر بلسان زملائه في المؤسسة قائلا "شمس اف ام هي جزء منا وهي قضيتنا لا يمكننا التخلي عنها". لكن حماسة وجيه لم تكن كافية لحجب المعاناة التي تلقي بظلالها بشكل واضح على أروقة الإذاعة.
يتم استخدام أستوديو واحد في الإذاعة فيما أغلق الأستوديو الثاني ويتناوب العدد المحدود المتبقي من الصحافيين على تأمين الحد الأدنى من البرامج المسجلة في أغلبها.
وأكثر ما يحز في نفس كوثر الزريبي الصحافية في الإذاعة هو انحسار الإمكانات اللوجستية في راديو "شمس اف ام" ما أثر بشكل كبير على موقعها التنافسي، وتقول لـDW عربية "مررنا بظروف مشابهة في السابق لكن الآن الوضع دقيق ونعيش حالة ضبابية بالكامل. الوضع المالي صعب ومثير للقلق بشكل دائم. أنت تعمل وتفكر فيما سيحدث في الغد بسبب الديون. نعمل أنا وزوجي على التأقلم مع مرتب واحد".
التخلي عن الإعلام؟
تأسس راديو "شمس اف ام" عام 2010 من قبل سيرين بن علي، ابنة الرئيس الراحل زبن العابدين علي، قبل ثلاثة أشهر من اندلاع الاحتجاجات الشعبية التي قادت الى الإطاحة بحكمه الذي استمر لمدة 23 عام.
وقد صادرت الدولة بعد ذلك جميع الممتلكات والشركات العائدة لعائلة بن علي وأصهاره والدوائر المقربة منهم، ومن بين الشركات في قطاع الإعلام راديو "شمس اف ام" وصحيفة "الصباح" اليومية العريقة ومؤسسة "كاكتوس برود" المتخصصة في إنتاج برامج الترفيه قبل الثورة.
ووضعت الدولة هيئات متصرفة في هذه المؤسسات إلى حين تسوية وضعياتها القانونية ببيعها الى القطاع الخاص وإعادة هيكلتها، وهو ما لم يحصل على الرغم من مرور 12 عام من المصادرة وإمضاء عدة اتفاقات مع الحكومة طيلة تلك الفترة، حيث فشلت جميع عروض البيع لأسباب مختلفة يعتقد الصحافيون أن بعضها متعمد.
ومع أن راديو "شمس اف ام" مثل قصة نجاح مع جيل جديد من الصحافيين الشباب المتحمسين من خلال التحول من مجرد مشروع ترعاه السلطة الى إذاعة ذات دور محوري في الانتقال الديمقراطي في تونس بعد 2011 مع توصيفها بالإذاعة "الأكثر حيادا" في انتخابات 2014، إلا أنها اليوم أصبحت من المشاريع المهددة بالاندثار على الرغم من استماتة صحافييها في خوض معركة بقاء.
يبدو الوضع أقل سوء حتى كتابة التحقيق في جريدة "الصباح" لأنها تملك عقارات وموارد تسمح لها بمجاراة الأزمة الحالية، لكن ليس إلى ما لا نهاية، إذ تحتاج المؤسسة وفق شهادات الصحافيين العاملين بها الى برنامج تطوير عاجل يشمل خدمة الفيديو والقسم الرقمي لإنقاذها من خطر الإفلاس. وفي المقابل فإن الوضع في "كاكتوس برود" يعد كارثيا بالنسبة لصحافييها الذين حرموا من أجورهم لمدة تناهز 13 شهرا في ظل أفق منعدم لمصير المؤسسة المعطلة بالكامل اليوم.
وفي تحليله لهذا الواقع لمؤسسات الإعلام يشير عبد الرؤوف بالي المكلف بالشؤون القانونية في نقابة الصحافيين لـDW عربية، إلى أن الممارسة على الأرض من قبل قوات الأمن في تصديها للتحركات الاحتجاجية، وفي إصدار الرئيس للقوانين والمراسيم دلائل على أن النية المبيتة لدى السلطة هي الرغبة هي التخلي عن المؤسسات الإعلامية.
ويوضح بالي في تحليله "لمست النقابة سوء إدارة لدى الهيئات المتصرفة في المؤسسات الإعلامية المصادرة وأثيرت قضايا ضد حالات فساد والحل الوحيد التي تفضله الحكومة الآن هو تصفية المؤسسات لطي هذا الملف. وإسكات الصحافة".
لم تشر الحكومة صراحة إلى أي حل، ولكنها لم تستبعد التصفية القضائية، بمعنى حل المؤسسات بالكامل وهو مآل سيدفع بالمزيد من البطالة في قطاع الإعلام ويحد من التعددية الإعلامية في بلد لا يزال الانتقال الديمقراطي فيه مترنحا منذ 2011.
ولم تستثن الأزمة الإعلام العمومي، إذ يشكو الصحافيون أيضا في مؤسسة "لابراس" للصحافة المكتوبة التي تصدر صحيفتين يوميتين بالعربية والفرنسية، من التأخر المتكرر لصرف أجورهم وتعطل عمليات طبع الصحيفة في أكثر من مناسبة، بالإضافة الى حالة الشغور في مناصب المديرين بعدد من الإذاعات لفترات امتدت لأشهر.
كما وجهت منظمات حقوقية انتقادات لإدارة التلفزيون العمومي بسبب انحسار حضور المعارضة في البرامج الحوارية منذ إعلان الرئيس قيس سعيد التدابير الاستثنائية يوم 25 تموز/يوليو 2021.
الصحافيون في "يوم غضب"
في ساحة القصبة حيث كان يفترض أن يعبر الصحافيون التونسيون عن غضبهم في "يوم الغضب"، حالت قوات الشرطة دون السماح لهم بالتجمع في الساحة التي تعد معقلا تقليديا للاحتجاجات المناهضة لسياسات السلطة. وقد عللت الشرطة التي قطعت الطريق بحواجز حديدية، قرارها بافتقاد المتظاهرين لترخيص مسبق، وهو إجراء ينظر له الصحافيون كسلاح بيروقراطي تستخدمه السلطة لإعاقتهم عن أداء مهامهم أو التظاهر في الشارع.
لكن لم تمنع الحواجز الأمنية الصحافيين من رفع بأصواتهم عاليا للتنديد بسياسات السلطة عبر شعارات تدعو الى تسوية وضعيات المؤسسات المصادرة والتوقف عن "تجويع" الصحافيين وملاحقتهم لآرائهم في المحاكم باستخدام المرسوم الرئاسي عدد 54 والذي ينظم العقوبات في جرائم الاتصال والمعلومات بالإنترنت.
وتقول العضوة بالمكتب التنفيذي لـ"نقابة الصحافيين التونسيين" ريم السعودي لـDW عربية "ما نعيشه اليوم هو إمعان في الانتهاكات ضد الصحافيين. لم تقدم الحكومة أي أفكار أو برامج لإنقاذ المؤسسات الخاضعة للمصادرة، بل على العكس هناك سعي لمزيد تعكير الوضع. ما نقرأه من تصريحات السلطة هو توجه نحو إلغاء الإعلام".
تثير هذه الفكرة مخاوف حقيقية للإعلام والمجتمع المدني لجهة أن مقاربات الرئيس قيس سعيد في إدارة الشأن العام تنطلق في أغلبها من إلغاء "الأجسام الوسيطة" بما في ذلك الأحزاب والمنظمات، وهو ما تردده أيضا الجماعات التي تولت تفسير مقارباته المثيرة للجدل، وتحيل هذه الأفكار الى شعاره الرئيسي "الشعب يريد" الذي تصدر حملته الانتخابية في 2019.
وعلى ذلك تعلق السعودي "ما غفل عنه الرئيس أن الإعلام سلطة رابعة، ودون إعلام وصحفيون لا يمكن بناء ديمقراطية. القطع مع ما سبق لا يعني إلغاء الصوت المخالف أو التضييق عليه".
مؤشر إضافي لتعثر الانتقال الديمقراطي
ينظر الخبراء في تونس إلى أزمة قطاع الإعلام على أنها رجع الصدى لمسار الانتقال الديمقراطي المتعثر في تونس بجانب الأزمة السياسية المتفاقمة منذ إصدار الرئيس قيس سعيد لقرارات 25 تموز/يوليو 2021 والتي مثلت عمليا قطيعة مع جانب كبير من الطبقة السياسية التي حكمت منذ 2011 .
وفي تقدير الأكاديمي الجامعي المتخصص في علوم الاتصال والإعلام صلاح الدين الدريدي فإن تعثر "الانتقال الإعلامي" بدوره هو علامة على فشل لا غبار عليه للانتقال الديمقراطي.
ويرى الدريدي في حديثه مع DW عربية أن الخطأ الجوهري خلف أزمة قطاع الإعلام الحالية يعود الى البدايات بعد الثورة عندما اختارت الطبقة السياسية الجديدة هدم جميع المؤسسات المرتبطة بإدارة الشأن الإعلامي التي كانت سائدة في فترة حكم الحزب الواحد قبل 2011، الأمر الذي أدى الى تغييب معياري الحوكمة والتعديل، وفق تقديره.
واستدل الدريدي في ذلك بما هو متوفر في النموذج الفرنسي حيث تختص وزارة الثقافة بصلاحيات مرتبطة في مجال اختصاصها بالإعلام فيما تعهد في نفس الوقت صلاحيات التعديل الى هيئة متخصصة.
في تونس تم تأسيس الهيئة المستقلة للاتصال السمعي والبصري بعد 2011 لتختص بتعديل المشهد الإعلامي لكن الدريدي يعتبر أن هذا الخيار كان منقوصا لأن تركيبة الهيئة لم تكن برأيه تتيح لوحدها وضع منظومة إعلامية جديدة أو حوكمة فعالة على الرغم من فتح الأبواب لبرامج التدريب الممولة من مؤسسات الاتحاد الأوروبي.
وبدل ذلك يقترح الخبير الأكاديمي مراجعة دور الدولة (السابق قبل الثورة) في طرق تمويل ودعم المؤسسات الإعلامية بشكل مباشر أو غير مباشر انطلاقا من مسؤوليتها في تعزيز الديمقراطية والتعددية وفي حق المواطن في المعلومة. ويكون ذلك بإعادة تنظيم وتوزيع سوق الإعلانات العمومية حتى لا تحرم وسائل الإعلام من عائدات كانت تتمتع بها في السابق وتساعد على ديمومتها.
لكن هذه العلاقة المتشابكة بين الدولة ووسائل الإعلام طالما أثارت حساسية لدى الصحافة المستقلة والمنظمات الناشطة في مجال مكافحة الفساد بسبب مخاوف من أن يؤدي الدعم الحكومي للمؤسسات الإعلامية الى توجيهها والتحكم في المضامين بطرق غير معلنة.
ويخشى المتحفظون إزاء هذه العلاقة من إعادة إنتاج سنوات من الدعاية السياسية لنظام الحكم، والإعلام ذو الاتجاه الواحد الذي كان سائدا قبل ثورة 2011.
وعلى سبيل المثال يعتقد وجيه النمر أن مؤسسته راديو "شمس اف ام" دفعت ضريبة "الحياد" في انتخابات 2014، مضيفا في إيضاحاته لـDW عربية "في السنوات الأولى بعد الثورة كان الوضع المالي للمؤسسة جيد نحقق مرابيح من عائدات الإشهار الخاص. واستمر هذا الوضع حتى عام 2016 لكن بعد ذلك انقطع الإشهار. اكتشفنا من وراء ذلك تعليمات مباشرة صدرت من السلطة".
ولتفادي الخروقات يقترح الدريدي ضرورة وضع ضمانات بأن تتشارك الدولة وخبراء وهيئات متخصصة من المجتمع المدني في مراجعة طرق الدعم والتعديل والحوكمة. ويضيف على ذلك "أن توفر الدولة الدعم للإعلام فهذا ليس منة وأن يكون لها دور سيادي في الإعلام فهذا أيضا لا يتعارض مع حرية التعبير. يجب أن ننظر الى التجارب السائدة في الديمقراطيات الغربية".
تونس - طارق القيزاني