حرية الصحافة.. مكسب أساسي للثورة التونسية في خطر!
٣ مايو ٢٠٢٢في الخامس والعشرين من يوليو/ تموز الماضي اجتمع الرئيس التونسي قيس سعيد بأعضاء مجلس الأمن القومي وقرر إعلان التدابير الاستثنائية في البلاد معللا قراره بوجود "خطر داهم" يهدد كيان الدولة مستندا في ذلك إلى الفصل 80 من الدستور.
ومع أن الرئيس تعهد بالمحافظة على بابي الحقوق والحريات في الدستور الذي علق لاحقا العمل به، إلا أن نقابة الصحافيين التونسيين استعادت التبرير ذاته الذي استخدمه الرئيس قبل عشرة أشهر عند إعلانه التدابير الاستثنائية، لتصف به واقع الصحافة اليوم وتشير في أعلى صفحتها الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك) عشية الاحتفال باليوم العالمي لحرية الصحافة، بأن "حرية الصحافة في تونس تواجه الخطر الداهم".
وترى نقابة الصحافيين أن هناك ما يبرر إطلاقها لذلك الشعار على واقع الإعلام في تونس، فعلى امتداد الفترة الاستثنائية أصدرت النقابة بيانات متكررة محذرة من انتكاسة لحرية الصحافة، المكسب الأبرز بعد ثورة 2011، ردا على تعرض صحافيين ومدونين لتحقيقات أمنية وملاحقات قضائية على خلفية آرائهم أو أعمالهم الصحفية.
تحقيقات أمنية وملاحقات قضائية
كان الصحافي خليفة القاسمي من بين ضحايا تلك الملاحقات، إذ خضع لمدة خمسة أيام للتحقيق من قبل وحدة مكافحة الإرهاب في مدينة القيروان بعد أن نشر خبرا على موقع إذاعة "موزاييك" الخاصة يتعلق بتفكيك خلية إرهابية. أرغمت المؤسسة على سحب الخبر من موقعها، فيما ضغطت السلطات الأمنية على خليفة أثناء التحقيق معه لكشف مصادر خبره لكنه امتنع عن ذلك.
يعلق عبد الرؤوف بالي عضو نقابة الصحافيين المكلف بالشؤون القانونية والمهنية، على ذلك في حديثه لـDW عربية بأن "هناك تلفيق للتهم كما حدث مع إيقاف خليفة القاسمي ومطالبته بكشف مصادره، وقد أخلت الداخلية بعد ذلك سبيله لتأكدها من أن هذه الممارسة غير قانونية".
وقبل خليفة القاسمي اعتقلت الصحافية شذى مبارك في سبتمبر/ أيلول الماضي ضمن تحقيقات شملت عمل مؤسسة "انستالينغو" الأجنبية والمنتجة لمضامين إعلامية على شبكة الانترنت، بتهمة التآمر على أمن الدولة والتحريض ضد الرئيس سعيد وتلقي أموال مشبوهة من الخارج. وفي حين شكى محامو المؤسسة من إجراءات غير "نزيهة" ومفتعلة وراء توجيه التهم لموظفيها وتصنيفهم كإرهابيين، أودعت الصحافية شذى السجن لبضعة أشهر قبل إخلاء سبيلها دون إثبات أي تهمة ضدها.
وقبل نحو أسبوع من الاحتفال باليوم العالمي لحرية الصحافة أوقفت الصحافية شهرزاد عكاشة رئيسة تحرير موقع "سكوب انفو" في الشارع من قبل قوات الأمن التي قامت بتفتيش هاتفها الخلوي ومن ثم إحالتها إلى التحقيق بسبب انتقادات لاذعة كانت وجهتها لوزير الداخلية، لكن أفرج عنها بعد يوم. وتقول عكاشة لـDW عربية "واقع الإعلام يشهد تدهورا مستمرا يدفع بنا للعودة إلى فترة ما قبل 2011 باستعادة نفس أساليب التضييق".
تعتبر النقابة أن الأمر الأكثر خطورة أمام الصحافيين في تونس هو تواتر مثولهم أمام القضاء العسكري في قضايا كان يفترض أن تحال إلى القضاء المدني بحسب المرسوم 115 و116 المنظم للقطاع منذ عام 2011 لا القوانين العسكرية.
وينتظر الصحافي عامر عياد ما ستؤول إليه محاكمته أمام القضاء العسكري بعد أن أوقف بسبب تهمة الحط من معنويات الجيش وثلب الرئيس وإهانة رئيسة الحكومة في برنامج تلفزيوني مباشر ردد أثناءه قصيدة للشاعر العراقي أحمد مطر تضمنت انتقادات مبطنة للرئيس.
أودع عياد السجن في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضيوأخلي سبيله في آذار/ مارس ثم صدر في الشهر التالي حكم بسجنه لمدة أربعة أشهر قبل أن يتقدم بطعن لدى محكمة الاستئناف لتنظر في مراجعته، وهي الخطوة ذاتها التي اتخذتها النيابة العامة العسكرية أيضا.
وفي خطوة سابقة قام القضاء العسكري قبل عام بإيداع المدون سليم الجبالي السجن على خلفية نشره لعدة تدوينات ناقدة وساخرة لأداء رئاسة الجمهورية وكبار المسؤولين في الدولة. وقد وجهت للجبالي تهمة الإساءة إلى رئيس الجمهورية المضمنة بمجلة المرافعات والعقوبات العسكرية.
مخاوف من انتكاسة
وترى نقابة الصحافيين أن هناك بالفعل ما يدعو إلى الخشية من حدوث انتكاسة لحرية الصحافة على الرغم من مناخ الحرية الذي ساد بعد ثورة 2011.
ولا ينفي عبد الرؤوف بالي تلك المخاوف، ويشير في حديثه مع DW عربية إلى أن "هناك عدة مؤشرات منها محاكمات وعرقلة عمل الصحافيين أثناء أدائهم لعملهم والعودة إلى المطالبة بالتراخيص للعمل وهي غير موجودة في القانون ولكن تعتمدها الأجهزة الأمنية للتضييق".
ويشير بالي بشكل أوضح إلى واقع الإعلام العمومي كأحد أوجه التقصير الممنهج تجاه المؤسسات الإعلامية، مثل الافتقاد إلى التعددية في البرامج الحواريةلا سيما في التلفزيون الرسمي وحق الصحافيين في العمل بحرية، ويعلق بالي على ذلك قائلا "التلفزة تحولت إلى بوق دعاية للسلطة الحاكمة وهذا ضرب للمهمة الأساسية للإعلام".
وتقول الصحافية بقسم الأخبار وعضو مكتب النقابة بمؤسسة التلفزة، حبيبة العبيدي، أثناء وقفة احتجاجية للصحافيين "نشعر أن هناك اجتهادات من المكلفة بالتسيير لوضع التلفزة على خط واحد، وهناك نية لتكون التلفزة بوق دعاية للسلطة" مضيفة أن العديد من الراغبين في العمل والانتاج "يجبرون على البقاء في بيوتهم وتغلق الاستوديوهات بحجة عدم وجود الإمكانيات".
ومع أن مديرة التلفزيون عواطف الصغروني نفت وجود تعليمات أو تضييق على التعددية، إلا أن الأحزاب المعارضة لا تظهر في المنابر الحوارية.
وتتردد شكاوي من صحافيي تونس عموما بأن الرئيس قيس سعيد لا يدلي بحوارات لوسائل الإعلام المحلية ونادرا ما أدلى وزراء حكومة نجلاء بودن التي عينها الرئيس لإدارة المرحلة الاستثنائية، بتصريحات للصحافة مع ما يرافق ذلك من اتهامات بالتعتيم وضرب حق النفاذ إلى المعلومة. وتبرر الدوائر المؤيدة للرئاسة من بينها عدة صفحات مؤيدة لها على مواقع التواصل الاجتماعي، بافتقاد الإعلام للموضوعية وانحيازه إلى تغطية أنشطة المعارضة وخصوم الرئيس. وقد تضمنت البيانات التي تصدرها مؤسسة الرئاسة في كثير من الأحيان تلميحات إلى ذلك كاتهام الإعلام بالتغاضى عن إنجازات الحكومة عمدا وإتاحة مساحات أوسع للمعارضة.
ويسلط الخبير المتخصص في الاتصال والإعلام، صلاح الدريدي، الضوء على أداء قطاع الإعلام في تونس؛ وفي تحليله لـDW عربية يلقي الدريدي باللائمة على برامج التدريب والتكوين الممولة من قبل الاتحاد الأوروبي بعد ثورة 2011 بدعوى إصلاح الإعلام وتعزيز حرية التعبير، حيث أنها وبحسب رأيه أتت بنتائج "عكسية وهزيلة على مستوى الأداء"، لأنها لم تكن خاضعة للحوكمة. ويشدد الدريدي على أن هذه الحوكمة في نهاية المطاف لا يمكن أن تنجح، إلا إذا كان العاملون في القطاع يتمتعون بدرجة "عالية من الحرفية والأداء المهني".
لكن المعضلة هي أن المخاوف والضغوط لا تتأتى فقط من مؤسسات الدولة، فهناك قلق بسبب تكرار الاعتداءات في الشارع من قبل جماعات مسيسة وأنصار أحزاب غير منضبطين، حيث تؤكد صحفيات تعرضهن للتحرش علانية في احتجاجات ضخمة نظمتها حركة النهضة الإسلامية في فبراير/ شباط 2021، كما تعرض صحافيون من التلفزيون العمومي للضرب في احتجاجات للمعارضة في أكتوبر/ تشرين الأول من نفس العام.
وعلى سبيل المثال وثقت وحدة الرصد بمركز السلامة المهنية في نقابة الصحافيين في آخر تقرير لها، ارتفاعا في نسبة الاعتداءات على الصحافيين خلال شهر مارس/ آذار 2022 مقارنة بالشهر السابق له، حيث سجلت 17 اعتداء من أصل 23 إشعارا، نصفها بدرت من الأجهزة القضائية.
وبالإضافة إلى ذلك يشكو الصحافيون في تونس من أوضاع تشغيل هشة وأجور زهيدة تصل أدناها إلى نحو 150 دولارا شهريا في ظل الافتقاد إلى قانون منظم للمهنة وملزم للمؤسسات الإعلامية. وتوصلت النقابة إلى التوقيع على اتفاقية مع الحكومة تضبط سلم الأجور وحقوق الصحافيين، إلا أنها لم تنشر بالجريدة الرسمية رغم صدور قرار من المحكمة الإدارية يدفع بنشرها.
من يتحمل المسؤولية؟
تدفع تلك الإحصائية إلى التساؤل عن الأطراف المسؤولة فعليا عن الأضرار اللاحقة بقطاع الصحافة في تونس. الصحافي والنقابي عبد الرؤوف بالي، لا يتردد في توجيه الاتهام إلى الدولة. ويرجع ذلك في تقديره إلى المضايقات الصادرة عن مؤسساتها والتغاضي عن إصلاح مؤسسات الإعلام العمومي التي تشهد انهيارا مثل "وكالة تونس أفريقيا للأنباء" والتلفزيون الرسمي ومؤسسة الإذاعة وصحيفة "لابراس"، بدليل التأخر في وضع خطط لإصلاحها وإنقاذها وتعيين مدراء لها.
وتؤكد شهرزاد عكاشة أيضا الحاجة للإصلاح، لكن هناك ما يعرقله وتقول إن "واقع الصحافة اليوم في حاجة إلى تعديلات وتعديل ذاتي. بدأنا بمجلس الصحافة ولجنة أخلاقيات المهنة، لكن عندما تتعرض إلى مضايقات وتتراجع مكاسبك شيئا فشيئا؛ ستترك مجهودك في الإصلاح وتتجه للدفاع عن نفسك كقطاع".
كما يرافق ذلكتدهور في أوضاع عدد من المؤسسات الإعلامية الخاصة والمصادرة بعد ثورة 2011 حيث تماطل الحكومات المتعاقبة في فض مشاكلها الإدارية. ويقول بالي لـDW عربية "الدولة تؤكد أن مسار الانهيار لوسائل الإعلام يدخل في استراتيجية السلطة الحاكمة".
ويطالب بالي في دعوته الدولة بأن تتبع مسار إصلاح حقيقي يعيد للإعلام دوره الحقيقي، وهو خدمة المواطن وليس السلطة الحاكمة. كما يؤكد الدريدي على الحاجة إلى حوكمة جديدة وفعالة بشقيها الإعلامي والاتصالي، تضم إعلاما عموميا قويا، وإعلاما خاصا واعيا لدوره السياسي والمجتمعي، بجانب نظام اتصالي يقوم على اتصال مهني من قبل مؤسسات الدولة وكافة تشكيلات المجتمع السياسي والهيئات السياسية. ويضيف الدريدي بأنه يجب "ألا ننسى أن الحوكمة لا تنجح إلا إذا كانت الدولة حاضرة بقوة بمدونتها التشريعية ومبادراتها لتعزيز حرية الإعلام والاتصال. ويتم تعزيزها من خلال بعث صناديق للتنمية الإعلامية والاتصالية بحسب حاجياتها، إلى جانب مشاركة تنظيمات المجتمع المدني والأحزاب والهيئات التعديلية في صنع الحوكمة الجديدة".
تونس – طارق القيزاني