معاناة إنسانية وسط عدمية القنابل: "قلبي معهم، فهم دائما في مخيلتي"
٣١ يوليو ٢٠٠٦تستمر الحرب الضروس بين إسرائيل وحزب الله لتجلب معها الويلات تلو الويلات، فمن القتل والدمار إلى التهجير وقطع المعونات الإنسانية عن لبنان، ومن ظلمة ليل الحرب الموحشة إلى فقدان الأمل بعودة الحياة إلى مجراها الطبيعي، فجملة الصور التي تنقلها لنا وسائل الإعلام العالمية لا تبشر بفرج قريب. عائلة محمد إبراهيم، المقيمة منذ عام 1990 في مدينة لونن الألمانية، فضلت قضاء عطلة صيف هذا العام في لبنان بعد انقطاع عن بلدها الأم دام ثلاث سنوات. لكن شبح الحرب حول هواء جنوب لبنان النقي إلى طلقات دبابات وقذاف تصب حممها فوق رؤوس سكان المنطقة. فبعد عشرة أيام من مكوث عائلة إبراهيم بين الأهل والأقارب، قام حزب الله بخطف جنديين إسرائيليين وقتل ثماني آخرين، الأمر الذي أعطى مبررا لإسرائيل لحرق الأخضر واليابس في هذا البلد اليانع، حسب ما أخبرنا السيد محمد إبراهيم، الذي أضاف أن "الطائرات والدبابات قطعت بقذائفها أوصال البلاد، ثم بدأت بقصف البلدات المحاذية للشريط الحدودي كل على حدا. لقد سقط الأطفال والشيوخ والنساء جراء القصف العشوائي، الأمر الذي اضطرني وعائلتي للهرب إلى الملاجئ، لكن هذا لم يحمينا من سلاح الطائرات الإسرائيلية، إذ فاجأتنا القذيفة داخل الملجأ بعدما اخترقت المنزل المكون من طابقين، حيث كنت أقبع مع وزوجتي وأولادي رولا وعلي بالإضافة إلى صهري وعائلته".
"ماما ماما أنا ما فيني أتحرك"
مستلقية على سرير مستشفي دورتموند كلينيكوم تنظر السيدة فاطمة مرة يمينا إلى زوجها على السرير المقابل، ومرة يسارا في اتجاه باب الغرفة، آملة أن يدخل زائر حاملا معه بعض الأخبار عن أهل لبنان وما فعلت الحرب بهم. ثم تحدثت إلينا إلينا بنظرة أمل حزينة علّ من يسمع صوتها، قائلة: "كنا نتوقع أن تكون القذيفة التالية من نصيبنا، وبعد بضع دقائق من وجودنا في الملجأ وإذ بالنور ينطفئ ثم سمعنا دوي انفجار وشعرنا بأن سقف البناية يسقط على رؤوسنا. لم نعد نرى شيئاً في الظلام. لكن الصراخ في الظلام الموحش كان يعطينا بصيص أمل بأننا لم نمت جميعاً. بعدها بدأت أتحسس من بجانبي بحثا عن أطفالي وزوجي، وقامت أختي كذلك بنفس العمل بحثا عن أحياء بين عتمة الغبار وأنقاض البناية. وبعدها قمت بدفع ابنتي نحو الجهة التي كنت أتوقع أن يكون باب الملجأ فيها، علها ترى النور متابعة بحثي عن ابني الذي كان يصرخ من شدة الألم "ماما ماما أنا ما فيني أتحرك". لم يعد بمقدور السيدة فاطمة في الأثناء احتباس دموعها، خاصة وأنها فقدت الأمل بأن يستعيد ولدها ابن الرابعة عشر ربيعاً عافيته أو أن يقدر على المشي على قدميه، ملتفتة من جديد إلى زوجها عله يعطيها قليلا من الصبر والاحتمال، ثم تحدثت إلينا قائلة: "بعد أن لمسته قال لي مجيبا بأنه هو علي، لم أكن اعرف فيما إذا كنت أستطيع حمله وإخراجه من بين الأنقاض، لكني قمت بجره جهة الضوء لأكتشف بعدها بأنه ينزف من جميع أنحاء جسمه وأن ساقه تكاد تكون مبتورة، ألقيته جانبا وجلست إلى جواره لآخذ قسطا من الراحة، وبعد دقائق قليلة استطعنا الخروج من تحت الأنقاض والوصول إلى الشارع، لتبدأ مرحلة الصراخ والبحث عن مساعدة."
جواز السفر الألماني كطوق نجاة
رغم القصف المتواصل على قرية بليدا، واصلت عائلة إبراهيم صراخها حتى سمعها أهل القرية، الذين قاموا بالاتصال بالصليب الأحمر. وبعد مضي ساعتين من الانتظار على قارعة الطريق قامت سيارة الإسعاف بنقل السيد محمد وصهره الذي فقد ساقيه، إضافة إلى أحد الأطفال بالغ الإصابة، إلى مستشفى قريب من البلدة "حيث تلقينا الإسعافات الأولية دون أن يكون هناك علاج حقيقي للإصابات، خاصة وأن المستشفى جديد ولم تكمل تجهيزاته الطبية بعد". وبعد يومين من قطب وتضميد الجراح في هذا المشفى المتواضع، قامت العائلة بإبلاغ السفارة الألمانية في بيروت التي أجابت بأنها لا تستطيع إخراجهم من الجنوب اللبناني، لكن على استعداد لنقلهم إلى ألمانيا بعد وصولهم إلى بيروت. "بعدها قمنا بالاتصال مرة أخرى بالصلب الأحمر الذي قام بنقلنا إلى أحد مستشفيات العاصمة الذي يعج أصلا بالمصابين، وهناك اضطررنا للمكوث يومين آخرين دون تلقي أي علاج غير تنظيف وتعقيم الجروح. وأثناء مكوثنا في بيروت قام أطباء من قبل السفارة الألمانية بفحصنا وتسجيل أسمائنا، ليتم بعدها نقلنا إلى ميناء البور، حيث كانت إحدى طائرات القوات البريطانية بانتظارنا لإيصالنا إلى قبرص، لتقلع بنا طائرة الـ (ADAC) إلى دورتمند." ورغم تأخر وصول العائلة الجريحة إلى ألمانيا للعلاج إلا أن السيد إبراهيم يلتمس عذرا للجهات المسئولة ولا يحملها أي نوع من التقصير نظرا لخطورة الوضع في لبنان ولطبيعة القصف العشوائي الذي حول مدن وقرى لبنان إلى أرض محروقة.
"قلبي معهم، فهم دائما في مخيلتي"
بحرقة الأم على ولدها وشوق للاطمئنان على الأهل والأحبة تحت القصف، تتابع السيدة فاطمة حديثها إلينا دون المقدرة على احتباس دموعها: "قلبي معهم، فهم دائما في مخيلتي ولم يفارقوني أبدا، خاصة وأنني أتساءل دوما ماذا سيحدث لهم لو قاموا بقصف بيروت، ما هو مصيرهم يا ترى، أين سيذهبون بعد كل هذا التهجير، فإخوتي اضطروا لترك مساكنهم في الضاحية ليسكنها الخراب وظلمة الحرب الموحشة." وحول حال أمها التي كانت معهم في الملجأ ولم تتركها شظايا القذيفة بحالها حيث أصيبت في معظم أنحاء جسدها: "أمي كانت تنزف من جميع أنحاء جسمها، وقمنا بنقلها بسيارة الصليب الأحمر مع ابني إلى بيروت، حيث لا زالت ترقد هناك. ولذا فإننا نحاول الاتصال بالعائلة في المستشفى للاطمئنان على أوضاعهم وصحتهم، وللاطمئنان على من هم أيضا خارج المستشفى، خاصة وأننا لا نعرف أين هم، لكن زيارتهم لجرحى العائلة في بيروت، يطمئننا بأنهم لا زالوا بخير."