مطبعة بريل: قصة نشر الكتب العربية والتراث الإسلامي بدأت من هولندا
٩ أكتوبر ٢٠١٠كل مهتم بقراءة كتب التراث القديمة، لا بد وأن يكون قد تصفح كتابا طُبع في مطبعة بريل بمدينة ليدن الهولندية أو كوتنكن الألمانية. فمطبعتا لايدن وغوتينغن، كما نكتبهما اليوم، هما من أقدم المطابع الأوروبية التي تخصصت بطباعة كتب التراث العربي والإسلامي التي حققها المستشرقون وترجموها إلى اللاتينية في ذلك الزمان، ولاحقا إلى اللغات الأوروبية الحية كالألمانية والفرنسية والانجليزية.
أما الدول العربية فلم تدخلها المطبعة قبل القرن الثامن عشر، وكان أول دخول للطباعة بالحرف العربي على يد عبد الله زاخر الذي هاجر من حلب إلى لبنان، والذي ابتدع شكلين للحروف العربية أكثر جمالا وأقرب إلى الخط النسخي، وكان ذلك في عام 1723. ثم جلب نابوليون بونابرت مطبعة معه في حملته على مصر عام 1789، وبعد ذلك بثلاثة عقود تقريبا، كانت البداية القوية والحقيقية للطباعة في مصر عندما أنشأ محمد علي مطبعة بولاق عام 1822.
وقبل سطوع نجم بريطانيا وهيمنتها على الملاحة البحرية الدولية، كانت السفن التجارية الهولندية قد عرفت موانئ الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا حتى اندونيسيا. وكان البحارة الهولنديون ومن يرافقهم من الرحّالة يعودون من الدول العربية بمخطوطات نادرة، فينكبون على دراستها وترجمتها إلى اللغة اللاتينية، لغة العلوم في ذلك الزمان.
عراقة مطبعة
تأسست دار نشر بريل في عام 1683 في مدينة لايدن الهولندية وهي متخصصة منذ ذلك الحين في نشر كتب عن تاريخ الشرق الأوسط والدراسات الإسلامية والآسيوية وكتب العلوم واللاهوت.
ويقول يود إليش Joed Elich، مدير المطبوعات الخاصة بالإسلام والشرق الأوسط وإفريقيا في دار بريل " كانت عائلة بريل تمتهن الطباعة في القرن السابع عشر، وظلت المطبعة ملكا للعائلة تنتقل من الآباء إلى الأحفاد حتى جاء من لا خلف له، فتحولت إلى شركة مساهمة موجودة في البورصة الآن".
وقد بلغ حجم مبيعات دار بريل للنشر 25 مليون يورو في عام 2006. وتساهم الدار حاليا في إصدار 100 مجلة علمية أكاديمية و 500 عنوان جديد سنويا. ويضيف يود إليش " نحن موجودون منذ 325 سنة وطيلة هذه المدة ونحن ننشر كتبا عن الشرق الأوسط والإسلام".
دائرة المعارف الإسلامية وتاريخ الأدب العربي
هذه الدار هي التي نشرت دائرة المعارف الإسلامية (الموسوعة الإسلامية) باللغات الانجليزية والفرنسية والألمانية في عام 1913 وساهم في تأليفها أشهر المستشرقين في ذلك الزمان، ومنهم بروكلمان وكراوس وماسينيون وآرنولد وأربري وغولدتسيهر ولويس وغيرهم. وفي عام 1987 صدرت نسخة جديدة من هذه الموسوعة باللغتين الانجليزية والألمانية. وهي موسوعة تعنى بكل ما يتصل بالحضارة الإسلامية بما في ذلك العصر السابق لظهور الإسلام.
وقد ترجمت معظم مواد الموسوعة إلى اللغة العربية وصدرت بنسخة مختصرة عام 1953 ثم في نسخة أكبر في الستينات بمصر وأعيد طباعتها في الشارقة عام 1998. وحاليا كما قال إليش " نحن نعمل الآن على الطبعة الثالثة خلال السنوات الـ 15 إلى 20 المقبلة، وكنا قد انتهينا من الطبعة الثانية في عام 2005 ، ويمكن الحصول على نسخة اليكترونية من الطبعتين الأولى والثانية في الانترنت. والترجمة الالكترونية الفرنسية ستكون في الانترنت السنة القادمة".
قصة هذه المطبعة هي قصة اهتمام الأوروبيين بالشرق تجاريا وثقافيا. ففي القرن السابع عشر بدأت رحلات المستكشفين الأوروبيين إلى المنطقة وخاصة إلى فلسطين وبلاد الشام من أجل فهم ٍ أفضل للكتاب المقدس، فكانت كليات العلوم الإسلامية والاستشراق هي أولى الكليات في جامعة لايدن، وقد ساعد ذلك في ظهور تقليد في المدينة يولي المخطوطات والكتب باللغة العربية اهتماما خاصا.
وكانت أول كتب طبعتها مطبعة بريل عن الشرق الأوسط والإسلام، لشخص يقيم في لايدن اسمه سكاليغر Scaliger ، وكان يتقن اللغات الفارسية والآرامية والعربية والعبرية. وقد زار الشرق الأوسط وعاد بمجموعة من المخطوطات، فترجمها ونشرها مع تعليقات عليها في مطبعة بريل.
لايدن كنز للمخطوطات العربية
وبعد سكاليغر قام عشرات آخرون بزيارة الشرق بحثا عن مخطوطات التراث القديمة، ومازال يوجد العديد من المخطوطات العربية في مكتبة جامعة لايدن. ويقول إليش "نحن نعمل الآن مع مكتبة الجامعة على توفير نسخ رقمية (ديجيتال) من هذه المخطوطات، وهذا الأمر سيستغرق زمنا طويلا لأننا نعمل الآن على أول 400 مخطوطة من عدة آلاف من هذه المخطوطات".
ومكتبة لايدن هي من بين أهم عشر مدن في العالم من حيث عدد المخطوطات العربية التي لم يتم تحقيقها وطباعتها بعد. ولم يكن لبريل دور يذكر في جمع هذه المخطوطات، "والفضل كله يعود إلى القائمين على مكتبة الجامعة" كما يقول يود إليش. ويضيف " صحيح أن بريل كانت مرتبطة بالجامعة في القرنين السابع عشر والثامن عشر، لكن لم يعد هذا الرابط قائما منذ القرن التاسع عشر".
لم يكن عدد سكان هولندا كبيرا في ذلك الوقت ولم يكن فيها جامعات كثيرة كما كان عليه الحال في باقي الدول الأوروبية، لذلك فإن طباعة هذه الكتب كانت موجهة إلى السوق الأوروبية التي تنامى اهتمامها بالشرق في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وهي فترة العصر الذهبي للمستشرقين الألمان على وجه الخصوص، الذين حققوا عشرات المخطوطات القديمة.
ومن هذه المخطوطات تاريخ الطبري في ثلاثة عشر مجلدا، وقد حققه المستشرق الألماني يوهان غوتفريد لودفيغ كوزيغارتن وترجمه إلى اللغة اللاتينية. وتستعد دار بريل حاليا لنشره في طبعة جديدة مع ترجمة باللغة الانجليزية في عام 2011.
معاداة الإسلام لم تؤثر على بريل
تنشر دار بريل اليوم حوالي 500 كتاب سنويا، وهذا أكثر مما كانت تنشر في السابق، وعلى مدى 326 عاما، نشرت الدار آلاف الكتب منذ تأسيس مطبعة بريل. وأرشيف الكتب القديمة موجود اليوم في أمستردام، في حين ما زال أرشيف الكتب الجديدة في مدينة لايدن، كما يقول مدير النشر يود إيليش.
ولدى سؤاله عن تأثير الخطاب المعادي للإسلام والمسلمين الذي ينشره سياسيون هولنديون مثل خيرت فيلدرز، على مبيعات دار النشر اليوم، يقول إيليش " لم يؤثر كثيرا فنحن غير مختصين بالعلوم السياسية وإنما بكتب التاريخ والثقافة وبعض الكتب تبيع بشكل جيد، لكننا لم نلحظ تغيرا على مبيعاتنا خلال السنوات العشر أو 15 الماضية".
لكنه يشكو من تراجع مبيعات الكتاب المطبوع وزيادة تكلفته ويقول "وضع دور النشر اليوم صعب نسبيا لأن مبيعات الكتب تراجعت، لكن نحن نصدر عشرات المجلات العلمية ومنتجاتنا الرقمية في الانترنت تحظى بإقبال كبير عليها ومبيعاتها جيدة. لقد حدثت نقلة في عالم الكتاب المطبوع إلى المعلومات الالكترونية، ولحسن الحظ نحقق أرباحا كبيرة من ذلك.
فالكتاب المطبوع بات مكلفا للغاية كما أن توزيعه مكلف أيضا، ولحسن الحظ لدينا مبيعاتنا في الانترنت. فكل كتاب نطبعه اليوم نوفر منه نسخا الكترونية لأجهزة آي باد والتليفون المحمول". وحاليا تسعى دار بريل إلى توفير نسخ الكترونية من مطبوعاتها السابقة، ويحتاج الأمر إلى سنوات للانتهاء من توفير نسخ الكترونية من جميع هذه المطبوعات.
مطبعة بريل طبعت أمهات الكتب العربية والإسلامية في القرون الثلاثة الماضية، وهي ما زالت وفية لهذا التراث العريق حتى اليوم.
عبد الرحمن عثمان
مراجعة: منصف السليمي