مصر: هل آن أوان ثورة الجياع على ثوار السياسة؟
٨ أغسطس ٢٠١٣ترحل هموم الناس في مصر بين محطات كثيرة، وتختلف باختلاف المكان الذي يذهب إليه أحدهم، حينما يريد التعبير عن همومه السياسية أو الاجتماعية. في القاهرة، إذا أراد المرء التعبير عن روحه الفردية وفي الوقت نفسه عن رغبة بالانضمام إلى الجماعة، معتبرا نفسه قائدا لثورة، حاله حال الجميع، فعليه الوقوف في ساحة التحرير. حسبما يقول متظاهرو الساحة، الخالية إلا من بعض الخيام في وسطها، والتي تمتلئ فجأة بمناهضي الرئيس المعزول محمد مرسي إذا حاول مؤيدوه العبور إليها أو قرروا إقامة تظاهرة كبيرة فيها.
أما إذا أراد المرء التظاهر دعماً للرئيس المعزول مرسي وجماعة الإخوان، فإن مكانه هو في شارع العقاد المؤدي إلى تقاطع رابعة العدوية، الذي اشتهر بعد تجمع المتظاهرين المؤيدين لمرسي فيه. هذا ما يمكن رؤيته حال اختراق صفوف الرجال والنساء والأطفال في رابعة العدوية. هناك تصدح الأصوات المطالبة بعودة الرئيس المعزول. بينما يسترخي أغلب من شاهدتُهم في الخيام، هروبا من الشمس أو ربما تعباً من الصيام.
يختزل المكانان المشهد السياسي، ويستقطبان الناس في مصر. أخبار ما يجري هنا وهناك، بالإضافة إلى الأنباء القادمة من سيناء تترك انطباعها على وجه البائع المتجول وسائق سيارة الأجرة المتعب من الزحام، والمتسولة، ورجل الشرطة الواقف في منتصف الطرقات تحت أشعة الشمس، والصغير سائق العربة الذي يعيل أسرته من نقل السياح في جولات حول الأهرام، والذي أصر بإلحاح على أن يركبني عربته، وعندما رفضت، شاطت عيناه من الغضب. قائلاً "لماذا تصر على إذلالي؟". سؤال صعب وغير متوقع من صغير.
"الكل اتفق على إسقاطه"
الكل منشغل بالقادم المجهول وفي الوقت نفسه غير منشغل، لأن الحياة لا تتوقف. أبو محمد، الذي يعمل سائق أجرة بسيارته الخاصة عند باب أحد الفنادق في منطقة الهرم، اشتكى لي قلة الحيلة: "لم يستأجر لديّ أحد منذ أسبوع، فالفنادق خالية من السياح"، يقول لي ذلك وعيناه تحدقان بدقة في طريق مزدحم لا تُرَاعى فيه قاعدة التجاوز من اليسار، فالتجاوز مسموح به من كل الاتجاهات. وهو خائف على سيارته التي يجب أن يدفع أقساطها الشهرية، والتي تعيله على تغطية نفقات أسرته، خاصة وأنه "يجهز" ابنته للزواج.
سألته إن كان قد انتخب محمد مرسي، أجابني بالإيجاب، مبرراً ذلك بالقول: "كان يقول (الحديث عن مرسي) إنه رجل صالح، سيقر قانونا للحد الأقصى والأدنى للراتب، لكنه لم يفعل". ويضيف "كنا نتمنى أن يأخذ من رواتب أصحاب الدخل العالي ويمنحنا منها شيئا ما، فأنا راتبي الشهري من عملي في وظيفتي يصل إلى ثلاثمائة جنية فقط. ولهذا اشتريت هذه السيارة لأعمل في نقل السياح (الغائبين أساساً) عن البلد هذه الأيام".
ويضيف: "كانت أيام حكم مرسي لا تطاق. انقطاع شبه دائم للكهرباء، وطوابير طويلة في انتظار البنزين. الغريب أن بعد سقوط مرسي مباشرة توفرت كل هذه الخدمات". يجيب عن سؤالي قبل طرحه، عما الذي حدث وغير الأمور بسرعة مذهله. وهل كان مرسي ممسكا بزرّ للنفط وآخر للكهرباء؟ قال"الكل اتفق على إسقاطه".
أبو محمد لا يريد شراء الخبز الأسمر المدعوم من الدولة، بل الخبز الأبيض، ويحتاج لشرائه خمسة جنيهات يوميا، أي مئة وخمسين جنيها شهريا، والذي يعني نصف راتبه. ورغم كل ذلك ينظر الرجل الخمسيني بتفاؤل إلى المستقبل، يفتخر بقوة رجال الشرطة في الحفاظ على أمن البلاد. يعبر عن فرحه برحيل مرسي، لكنه يكرر جملة سمعتها كثيرا "مصر مش محفوظة بأهلها. مصر حافظها الله".
أوصلني أبو محمد إلى منطقة مار جرجس، حيث تقع أهم الآثار القبطية والمتحف القبطي. بعد أن قال إنه من منطقة الهرم، أولى المناطق التي سكنتها القبائل العربية بعد وصول الإسلام إلى مصر، دخلت الكنيسة المعلقة، استقبلني طفل يبلغ تقريبا العاشرة من العمر، مبتسما. قدم لي ورقة استطلاع للرأي وتحدث معي بانكليزية جيدة جدا. مينا يعمل متطوعا في الكنيسة القديمة. والأسئلة في الورقة تدور حول التعايش السلمي بين الطوائف والأديان المختلفة.
قال إنه يؤمن بالعيش مع الآخرين، رغم اختلافهم بالدين. فالجميع برأيه مصريون في هذا البلد ويملكون الثقافة نفسها. تركت الكنيسة، بعد أن تجولت فيها برفقة متطوعة أخرى، شرحت لي تاريخ الكنيسة. أبواب الكنيسة الداخلية أغلقت وبقي الأطفال يلعبون مع أحد البالغين كرة القدم في باحتها الجميلة. الحي هادئ بعكس وسط المدينة المزدحم. وعرض الآثار مجاني، دون الحاجة لدفع أجرة المتطوع.
تحالفات الباعة المتجولين
لا يتظاهر مؤيدو مرسي وأنصار جماعة الإخوان خلال النهار، فالصوم يقيد حركتهم إلى حد ما. التظاهرات تبدأ بعد صلات التراويح. مثل مساء يوم الاثنين (15 تموز/ يوليو 2013)، حين احتل حوالي ألفين منهم ساحة رمسيس. مَن لم يؤدِّ صلاة التراويح منهم في جامع الفاتح أداها في منتصف الساحة. أو كما فعل بعضهم على كوبري 6 أكتوبر، بعد أن أغلق بعض شبابهم الكوبري وسدوا الطريق على السيارات.
اضطررت لترك سيارة الأجرة التي أقلتني من مدينة 6 أكتوبر لأكمل رحلتي على قدمي فوق الجسر المهم في وسط المدينة. شاهدني أحدهم أحمل كاميرتي معي، سألني أولا عن جنسيتي. ثم رحب بي وأصبح بسرعة دليلي في الساحة. شاب نشيط في العشرينات من العمر. مؤدب جدا، وأثار انتباهي سرعة ترحيبه بي، والتي أكدت لي أن مؤيدي مرسي وأنصار جماعة الإخوان المسلمين في حاجة إلى التواصل مع الإعلام.
عندما نزلنا إلى الساحة، كانت مليئة بالباعة من مفترشي الأرصفة، ومن الإخوان. المصلون يتحاشون الاقتراب من بضاعة الباعة. وهؤلاء بدو لي هادئين جدا، بشكل ملفت للنظر، رغم أن رزقهم قد انقطع في هذه الليلة. هؤلاء ينتشرون في كل ساحات وشوارع القاهرة الرئيسية. وما يلفت النظر أنهم فئة مختلفة من الباعة، لهم قوانينهم وتحالفاتهم.
لم تمرّ دقائق، حتى جاءت قوات الداخلية محاولة إبعاد شباب الإخوان من الكوبري، وسرعان ما تطايرت الحجارة والقنابل المسيلة للدموع فوق الكوبري. ليصل الدخان إلى المصلين في الساحة وتبدأ المصادمات التي أدت إلى مقتل 7 أشخاص وإصابة أكثر من مائتين. لملم الباعة بضاعتهم، وانسحبوا، إلا باعة المشروبات، فقد ازداد بيع مشروب الكولا المستخدم كمضاد للغاز المسيل للدموع، كما ظهر فجأة منتج آخر بسعر جنيه واحد، الكمامة الورقية البيضاء اللون.
تناقضات
لا يبتعد المرء كثيرا عن التحرير أو رابعة العدوية، كي ينقلب الوضع تماما من شعارات وتظاهرات، إلى مقاهٍ وقهوة وشاي وحديث عن الثورة، أو حديث عن أمور أخرى. مثلما هو الحال في الزمالك، التي تبدو وكأنها لا تعلم بالذي يجري في وسط البلد. فالمقاهي الأوروبية الطراز، أو الشرقية بمستوى راق، لا يدور الحديث فيها عن الإخوان إلا لغرض المزاح. وهناك يمكن رؤية أناس بشعر أشقر يستمتعون بمنظر النيل، ومصريين يبدون من عالم آخر غير عالم رابعة العدوية، فتيات يرتدين الجينز الضيق وشباب بقصات شعر غربية. لكن شيئا واحدا لم أفتقده بالقاهرة أينما ذهبت وشاهدته هناك أيضا: أطفال يبيعون المناديل الورقية، حتى منتصف الليل، وسيدات كبيرات في السن يطلبن المساعدة المادية.
"عيش، حرية، عدالة اجتماعية" مطالب ثورة 25 يناير والفقراء وأبو محمد، والباعة الذين يعيشون من رزق يومهم. لكن التظاهرات المستمرة، تمنع هؤلاء من البيع، وتهدد الوصول إلى "العيش"، مثلما تهدد حياة كل العاملين في قطاع السياحة. والذين يقدر عددهم بثلاثة ملايين شخص. وعليهم تعتمد بشكل مباشر حياة ما يقدر بخمسة ملايين آخرين.
ورغم أن أغلب من قابلتهم لا يترددون في التعبير عن فرحهم لرحيل مرسي، فسياسة الإخوان في مجال السياحة أساءت لأعمالهم، لكنها أيضا توقفت بشكل تام منذ 30 يونيو. حتى أن القاهرة رغم زحامها بالنسبة لي، تبدو فارغة بالنسبة لهم. إذ لم التقِ بوجوه أوروبية إلا ما ندر، مثلما كان الحال في الزمالك. أما في منطقة الحسين والسيدة زينب، فهناك بعض السياح من إندونيسيا وماليزيا.
سيل ثوري وإقصاء لفئة من الشعب
سالت المحامي والناشط السياسي ياسر شكري عما إذا كان شعار ثورة 25 يناير سيشكل معضلة في المستقبل. فـ"العيش" الأبيض والأسمر سينقطعان عن بيوت ملايين المصريين إذا استمرت التظاهرات، رغم حرية التعبير والخروج إلى الشارع التي أسقطت حكومة منتخبة ديمقراطيا، بهدف إرساء العدالة الاجتماعية. فهل سينقلب قريبا من يعمل لقوت يومه على الثوار؟ فقال:"هناك نسبة من المهمشين داخل المجتمع، الجوعى، تصل نسبتهم من 12- 15 مليون شخص في مصر. على كل حكومة سواء كانت ليبرالية أم غير ليبرالية أن تراعي تهتم بحياة هؤلاء المهمشين، خاصة وأن الحكومات المتعاقبة سرقت ما فيه الكفاية من قوت هؤلاء". وأضاف: "السيل الثوري مازال مستمرا، وهناك تغيير مستمر في وجوه الثوار. مصر تتغير ولن نعود إلى حكم السلطة المطلقة".
محمد سعد أحد قيادي الجماعة الإسلامية حمل ما أطلق عليه "ثلة من الجيش. لم تقبل بوصول مدنيين إلى السلطة" وصول الأوضاع السياسية وبالتالي الاجتماعية إلى هذا المستوى. ويضرب مثلا مصريا "اللي حضر العفريت يصرفُه". أي أن العسكر قد بدؤوا وهم يتحملون المسؤولية". وتساءل لماذا لا يعتبر قائد الجيش، عبد الفتاح السيسي أن من يخرج من الإخوان للتظاهر بأنه ليس من الشعب المصري". حسب قول محمد سعد.
سؤال من شدة الألم
"مرسي إنسان طيب ومحترم" قالها عيد، بائع كتب يفترش الرصيف في منتصف شارع قصر النيل. أشتكى من قلة الزبائن. "فالقليلون يشترون الكتب هذه الأيام". عيد شارك في ثورة 25 يناير و30 يوليو، وهو متفائل بحدوث تغيير كبير في مصر. ثم عاد وانتقد أداء الدكتور مرسي، وببعض ابتسامة أضاف: "مرسي أخفق في كل شيء. لكن يحسب له أمر واحد فقط. لم يحققه لا جمال عبد الناصر ولا السادات ولا مبارك خلال سبعين عاما. لقد قضى على الإخوان في عام واحد". سألته، ما الذي يفعله عند خروج التظاهرات، ويتوقف السوق؟. قال:"يجب أن نصبر، يجب أن نصبر. سوف تأتي النتائج بعد حين".
لا يملك الجميع صبرا مثل صبر عيد. فالبعض يقول إن ما قامت به القوات المسلحة المصرية هو انقلاب على الشرعية. الدكتور محمد مرسي حصل على غالبية الأصوات التي منحته السلطة. سيد سائق سيارة أجرة، قال لي ذلك بصعوبة. فضرسه يؤلمه. وهو صائم ولا يريد الإفطار. إلا أنه مازال يستطيع القيادة في شوارع تسودها الفوضى، وتصل درجة الحرارة فيها إلى 40 درجة مئوية. نظر لي بعد أن سألني عما الذي أفعله هنا؟ مستغربا وجود سائح في مثل هذه الأوقات.
ثم تساءل سيد "من المسؤول عن الجنود القتلى في سيناء، أليس هو وزير الدفاع السيسي؟ لماذا لا يقدِّم إذاً استقالته أو يقيله الرئيس المؤقت عدلي منصور، مثلما فعل مرسي مع طنطاوي؟". فاجأْني بالسؤال، إذ يبدو السؤال منطقيا وغير منطقي. فالسيسي هو الذي عيّن منصور رئيسا مؤقتا، فكيف لمنصور أن يقيله. لا أعلم إن كان سؤاله نتيجة حس سياسي فطري، أم أنه نتيجة آلام ضرسه الملتهب، مثل شمس القاهرة التي تزيد فضاء المدينة وساكنيها سخونة!؟
عباس الخشالي - القاهرة
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: قنطرة 2013