مصر – اقتصاد مأزوم رغم مؤشرات إيجابية عدة!
٢٧ يناير ٢٠١٨إشادة لافتة بما حققه الاقتصاد المصري في الوقت الذي تمر فيه الذكرى السابعة لثورة يناير/ كانون الثاني 2011. غير أن ما هو لا فت أكثر هذه المرة أن تأتي إشادة قوية من صندوق النقد الدولي الذي يرفض الشارع عادة سياساته التقشفية في البلدان المدينة له كمصر. فقد جاء في مراجعة البنك أو الصندوق الثانية لبرنامج الإقراض الخاص بالاقتصاد المصري أن هذا البلد سيحقق نموا أكبر من المتوقع يصل إلى نحو 5 بالمائة في السنة المالية الحالية 2017/ 2018 بفضل سياسات الإصلاح الاقتصادي التي بدأت تعطي ثمارها. وتوقعت المراجعة انخفاض معدل التضخم إلى 12 بالمائة بحلول صيف هذه السنة مقابل معدل بلغ حوالي 20 بالمائة أواخر السنة الماضية. ومن المؤشرات العديدة التي أشاد الصندوق أو البنك بتطورها الإيجابي ارتفاع الاستثمار الأجنبي في سوق الأسهم المصرية إلى مستويات قياسية وتنامي إنتاج الغاز وتعافي السياحة. وشدد الصندوق في مراجعته على ضرورة استمرار سياسة الإصلاح التي ترتكز على التقشف ورفع الدعم الحكومي عن أسعار السلع وخفض أسعار الفائدة لتقليص عجز الميزانية وتشجيع استثمارات القطاع الخاص والابتكار والنمو وخلق الوظائف.
نقاط مضيئة
السؤال الذي يطرح نفسه هو، هل تقود الاصلاحات الاقتصادية الحالية التي تنفذها مصر تحت إشراف صندوق النقد الدولي وقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى تشجيع القطاع الخاص والابتكار والنمو وخلق الوظائف؟ بداية لا بد من القول أن تعويم الجنيه المصري ورفع أسعار الفائدة ورفع الدعم الحكومي عن مصادر الطاقة وسلع أخرى كان خطوة صحيحة وفي غاية الجرأة. ومما لا شك فيه أن ذلك ساهم إلى جانب خطوات أخرى في حشد أموال محلية وأجنبية لتنفيذ مشاريع كبيرة في مجالات النقل والطاقة. كما ساهم في رفع احتياطي مصر من النقد الأجنبي إلى أكثر من 36 مليار دولار بحلول العام الماضي 2017. ومن التبعات المهمة لسياسة الاصلاح الاقتصادي المصرية الحالية أيضا تقليص عجز ميزان التجارة الخارجية من 52 إلى أكثر من 35 مليار دولار خلال عامي 2015 و 2016 حسب نشرة مؤسسة الاستثمار والتجارة الخارجية الألمانية/ GATI. وخلال العام الماضي 2017 تقلص العجز بنسبة 25 بالمائة في وقت ارتفت فيه الصادرات غير النفطية بنسبة 10 بالمائة. بالمقابل بلغت نسبة انخفاض الواردات 14 بالمائة. كل هذه المؤشرات أدت إلى تحسن معدلات النمو أكثر من المتوقع. كما حسنت من ملاءة مصر وقدرتها للحصول على القروض وإصدار السندات وفي مقدمتها قروض صندوق النقد الدولي. غير أن بيت القصيد ليس فقط في هذا التحسن الهام على أكثر من صعيد، بل في كيفية التحكم بثماره وتبعاته وإعادة توزيعها على الخدمات والاستثمارات ذات الأولوية.
استمرار تفشي البطالة
من الواضح أن التكلفة الأكبر للإصلاح الاقتصادي الضروري وثماره يتحملها أصحاب الدخل المحدود، لاسيما الذين يتم اقتطاع الضرائب والرسوم من دخولهم بشكل مباشر. ومنذ ثمانينات القرن الماضي لم تفلح أية حكومة مصرية في إعادة توزيع الدخول بشكل يقلص جوهريا من فساد وامتيازات كبار التجار والاغنياء والمتحالفين معهم من أصحاب السلطة في أجهزة الدولة والجيش والأمن وإداراتها. كما لم تفلح في تقليص تهربهم من الضرائب والرسوم اللازمة للاسثتمار والانفاق. ومن تبعات ذلك لجوء الدولة إلى القروض بشروط صعبة ونشوء احتكارات تجارية وغير تجارية تعيق وتمنع وتعرقل تأسيس وازهار الشركات الصغيرة والمتوسطة التي تقوم على الإبداع وتوفير فرص العمل. وهو الأمر الذي يعكس استمرار تفشي البطالة في صفوف الشباب بنسبة تصل فعليا إلى 25 بالمائة مع العلم أن حوالي 700 ألف شاب يدخلون سوق العمل المصرية سنويا. كما يعكس هذا الاحتكار التحكم بأسعار الكثير من السلع في السوق حتى في الأوقات التي تتجه فيه إلى التراجع في الأسواق العالمية. ويزيد الطين بله أن ذلك يحصل في وقت تراوح فيه أجور العمال والموظفين تقريبا مكانها ما يؤثر على حركة السوق بشكل سلبي.
أين المشكلة؟
تبدو آفاق الاقتصاد المصري في نظر غالبية الخبراء والمؤسسات الدولية المانحة وفي مقدمتها صندوق النقد الدولي جيدة ومشجعة. ويستند هذا الرأي إلى المؤشرات الكلية. ونخص بالذكر منها هنا استقرار سعر العملة وتحسن مردود قناة السويس وبدء استغلال حقول غاز جديدة وانتعاش السياحة. غير أن هذا التحسن رغم أهميته البالغة لا يحل الأزمة الاقتصادية العميقة التي تعاني منها مصر في مجالات أبرزها تفشي البطالة وتدني الدخول وارتفاع الأسعار وتردي مستوى معيشة غالبية الفئات الاجتماعية. ولعل الملفت هنا فشل السياسات الاقتصادية المتبعة حتى الآن في تنفيذ برامج التدريب المهني وتقديم القروض الصغيرة والرعاية المكثفة لتعميم تجربة المشاريع الصغيرة والمتوسطة والناجحة رغم التأكيد الدعائي الممل عليها من قبل المعنيين في السلطة. ويلخص هذا الفشل عدم تقدير هؤلاء لأهمية ذلك في النهوض باقتصاد متوازن ومتعدد الموارد دون خلل وتشوهات هيكلية توقعه في أزمة جديدة من فترة لأخرى.
ضرورة تغيير البوصلة
إلقاء نظرة على سياسات الاستثمار في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي يظهر استمرار التركيز الأساسي على مشاريع ضخمة في مجال الطاقة يكلف الواحد منها عدة مليارات من الدولارات. بالمقابل فإن المخصصات الفعلية التي يتم صرفها لإقامة المشاريع الصغيرة والمتوسطة وخاصة خارج المدن الكبرى تكاد لا تذكر مقارنة بمخصصات المشاريع الضخمة. وعليه لا بد من إعادة توجيه البوصلة بشكل يترافق مع تحسين أداء الإدارات الحكومية المسؤولة عن التراخيص والموافقات وأداء البنوك المانحة للقروض، إضافة إلى خطوات أخرى تشمل خلق تكافؤ للفرص بين المنتجين وتحسين ظروف المنافسة في السوق بشكل يساعد على تحسين مستوى الدخل وتوفير السلع بنوعية جيدة وأسعار مناسبة.