مراكش ـ جامع الفنا كتاب ألماني جديد حول المدينة الحمراء
١٢ أغسطس ٢٠٠٧لم يكن المكان أول ما جلب انتباه كريستوف لايستن، بل الزمن في امتداده وبطئه ولانهائيته. فحيثما حل كاتبنا إلا وشعر بضغط هذا الزمن الذي لايريد أن ينتهي، والذي يمعن في الإستمرار، ومنذ أولى خطواته في المغرب:" موظف التفتيش يفتح جواز سفري من نهايته ليعثر على الصفحة. ليضغط عليها بطابعه مرتين، لكن الطابع كان باهتا، فيبدأ برسمه في عناية بقلمه. استمر ذلك طويلا"
إنه زمن آخر، يقول كاتبنا، زمن، كما لو أن الأرض بعد تملك وقتا وكما لو أن الأشياء تملك من الزمن ما لا ينتهي ولا ينضب. لكن ليس البؤس ما يثيره، بل فقط هذا الزمن المعيش، هذه الديمومة من تشعره بالغربة. لكن هل لهذا الزمن من علاقة بالمكان، بجامع لفنا هذه السوق التي تعج بالأسرار والقصص؟ سؤال لم يطرحه كاتبنا مباشرة، وإن ظل يراوده على طول صفحات الكتاب.
لكن من أين هذا الإسم؟ ما الفنا؟
هل هو مجرد سوق قديمة تعج بالسحرة والمشعوذين والحواة والباعة والحكائين وقارئي الغيب والغرباء واللصوص؟ أهو مكان مقطوعي الرؤوس، فهنا كان يتم عرض رؤوسهم على الناس عبرة لمن يعتبر. "وتقول الفنا، ما لا ينتهي. اريد أن أعرف معناه بالضبط. هل هو التدمير، أهو العدم، أهو الموت؟ الموت كشيء لا ينتهي؟ تسأل. لا، إذن أهو الجنة؟ الجنة هي الجنة، لربما. لكن ليس بالنهاية. الشيء الذي لا ينتهي. الدائرة، الله، الحكاية".
ويظل السؤال يلح عليه، كأنما لم يحضر لهذا المكان إلا ليبحث له عن جواب ما. سر كامن، لا يفصح عن نفسه، وأمام كل وجه، أمام كل محل أو أمام كل حكاية، يمعن هذا السر في الإبتعاد.:"الفنا، فنا، فناء: أحدهم قال لي بأن الفنا يعني أيضا المكان الكبير. طبعا إنه لا يعني الموت. آخر قال لي بأنه سمع من يقول أنه في هذا المكان كان يقوم مسجد، لم ينته من بناءه، أو أن هدمه كان اشبه بالفناء، ليس كالموت بل كالعدم، كنهاية العالم؟" لا، تخفي الأجوبة أكثر مما تقول، أسئلة أخرى تتناسل، بل هو السؤال نفسه، وعبر صفحات الكتاب، يعود مرة أخرى:"الفنا. ذاك الذي لا ينتهي البتة. تتمسك مرة أخرى بهذا المعنى. مثل الأطباء الشعبيين، الغناوي، قراء الغيب وهم يتأرضون ساحة الجامع، حتى وإن لم يطرق بابهم زبون. وشأنك في ذلك شأن الحكواتي، الذي ينتظر أحيانا ساعات طويلة، وهو يرى حلقته تنمو رويدا رويدا، نصف دائرة تقريبا..."
مثل حكاية لا تنتهي...
هو الفنا أو هو الزمن، أو هي الحكاية التي يتناوب على حكايتها الكثيرون، والتي تتناسل وتتوالد، يوما عن يوم، وجيلا عن جيل. قبل أكثر من خمسين عاما وقف الكاتب الكبير إلياس كانيتي في نفس المكان، وأصغى لنفس الحكايات لربما، وكتب في كلمات لا تضاهيها كلمة عن القصاصين الشعبيين في كتابه "أصوات مراكش":"كنت فخورا بقدرتهم على الحكي وتأثيرهم على الناس. بدا لي كما لو أنهم إخوة لي، أكبر سنا وأفضل معرفة.. وفي لحظات السعادة هذه، كنت أقول لنفسي: أنا أيضا أملك قدرة جمع الناس من حولي، وقدرة أن أقص عليهم حكايات. لكن بدلا من السفر من مكان إلى مكان دون أن أعرف ما الذي سأعثر عليه وأية آذان ستصغي إلي، وبدلا من أعيش في ثقة من حكاياتي، بعت نفسي للورق. وخلف طاولة وأبواب أعيش مثل حالم جبان. أما هم فيعيشون في زحمة السوق رفقة مئات الوجوه الغريبة، التي تتغير كل يوم. إنهم غير محملين بأي علم بارد وسطحي. إنهم لا يملكون كتبا، ولا طموحات، ولا أمجاد خاطئة. ورفقة الرجال الذين يعيشون من الكتابة، لم أشعر إلا فيما ندر بالراحة. لقد احتقرتهم لأني أحتقر شيئا بداخلي وأعتقد بأن هذا الشيء هو الورق. أما هنا فوجدت نفسي بين شعراء يمكنني أن ارفع عيني إليهم لأنه لا وجود لكلمة لهم يمكن قراءتها".