ماكس بلانك: الأب الروحي لنظرية الكم
٨ أغسطس ٢٠٠٦ولد ماكس بلانك عام 1858 بمدينة كيل الألمانية، وكان يتمتع بموهبة موسيقية ربما أكسبته حسه المرهف كما اتضح في حياته لاحقا. ورغم نصيحة بروفيسور الفيزياء فيليب فون جولي له بعدم دراسة الفيزياء، إذ أن الكثير من العلماء في ذلك الحين كانوا مقتنعين أنه تم اكتشاف كل ما يمكن اكتشافه فيها، إلا أنه اختار دراسة هذه المادة في جامعة مدينة ميونيخ والتي كان قد انتقل إليها مع عائلته. وبعد وقت قليل قرر دراسة الفيزياء النظرية والابتعاد عن التجارب العملية. وفي عام 1877 انتقل إلى برلين حيث تابع دراسته لدى عدد من أعظم فيزيائيي عصره أمثال هيرمان فون هيلمهولتز و جوستاف كيرشهوف. ولكنه درس بالأخص باجتهاده الشخصي كتب رودلف كلاوزيوس وتخصص لذلك السبب في علوم الحراريات. وفي عام 1879 قدم رسالة الدكتوراة في نظرية الحرارة الديناميكية. بعد ذلك استكمل دراساته في مجال الطاقة الحرارية رغم تجاهل وسط الفيزياء في بادئ الأمر له. في نفس الوقت شق بلانك حياته العملية في المجال الأكاديمي، حيث انتقل من التدريس بجامعة ميونيخ إلى كيل ثم جوتنجن ومنها إلى جامعة برلين ليخلف كيرشهوف بعد وفاته.
انقلاب في الفيزياء والفكر السائد
في عام 1894 بدأ بلانك دراسة الإشعاعات المنبعثة من الأجسام السوداء. في ذلك الوقت كانت لا تزال الفكرة سائدة أن الطاقات المنبعثة من الأجسام تخرج باستمرار وتواصل. لكن بلانك أثبت أن تلك الطاقات تنبعث من الأجسام في شكل وحدات بكميات معينة. فعند تسخين أي جسم تنطلق منه طاقة في شكل ضوء وحرارة. كما اكتشف أن الكمية المنبعثة من الأجسام تُحسب عن طريق ضربها في "ثابت بلانك" (كما سُمي في وقت لاحق)، وهو من الثوابت الطبيعية. بذلك أظهر بلانك أن الطاقة تنبعث من الأجسام في هيئة وحدات أو "كم" معين. واطلق على هذا الاكتشاف "نظرية الكم" التي تعتبر اليوم احد أهم أسس وقواعد الفيزياء الكمية، خاصة وأنها ضربت بجميع المعتقدات السائدة حتى ذلك الحين عرض الحائط وأرست قواعد الفيزياء الحديثة.
ولأن بلانك نشأ في عائلة محافظة وتربى تربية رافضة للثورة فقد عانى من هذا الانشقاق بين معتقداته واكتشافاته. ولكنه قرر أن نظريته هي الطريق الوحيد الصحيح ودافع عنها. وفي نفس الوقت كان يدافع عن نظرية أينشتاين النسبية. وبفضل بلانك انتشرت نظريات أينشتاين في ألمانيا التي كان لنظرية بلانك تأثيرا كبيرا عليها. وبعد استخدام أينشتاين لنظرية بلانك تم إثبات أنها لا تتعلق فقط بالفيزياء الكمية وأنه يمكن استخدامها في مجالات أخرى كثيرة. توجت إنجازات العالم بفضل تلك النظرية بتسليمه جائزة نوبل للفيزياء عام 1918. وتجدر الإشارة إلى أن بلانك وأينشتاين كانت تربطهما صداقة حميمة، فقد كانا يعزفان الموسيقى سويا. ورغم تباعد مواقفهما السياسية والعلمية في بعض الأحيان، إلا أن هناك العديد من المواقف التي تمكن كل طرف باقناع الطرف الآخر بها.
إنجازات بارزة ومتواصلة
بدون اكتشافات بلانك لما كان من الممكن التقدم في نظريات الإشعاع أو بناء النواة. فبفضل بلانك تم اختراع الكمبيوتر واكتشاف الطاقة الشمسية وأشعة الليزر. أما عن الثورة التي أحدثتها نظريته في مجال المعتقدات، فقد أثر هذا على بناء المجتمع بأسره، إذ ثَبُت للعالم أن الطبيعة، وبالتالي أيضا المجتمع، لا تتمتع بترتيب معين، إنما تتسم بالتغيرات المفاجئة. هذا الاكتشاف الجديد عن الطبيعة أدى إلى تزلزل المجتمع الذي كان حتى ذلك الوقت يدور في أطر ثابتة. وقد أثر هذا على بلانك شخصيا الذي كان يعتبر محافظا من حيث معتقداته الدينية، وأدى ذلك إلى استعداده للتخلي عن نظريته والاعتراف بالفيزياء الكلاسيكية.
عانى ماكس بلانك الكثير من الأحداث التراجيدية في حياته، فقد فقد زوجته واثنين من أبنائه وبناته الاثنتان، كما عانى من إحساسه الدائم بالذنب بسبب الانقلاب الذي أحدثته اكتشافاته. لذلك حاول باستمرار تقريب الفيزياء الكلاسيكية من الفيزياء الحديثة التي يعتبر بلانك بنظريته من مؤسسيها. واليوم تحمل العديد من المعاهد العلمية اسم ماكس بلانك اعترافا بدوره العلمي الكبير، كما كانت القطعة النقدية من فئة ماركين تحمل صورته.