مائة عام على الحرب العالمية الأولى ـ الملابسات واستخلاص العبر
١٢ مارس ٢٠١٤DW: في صيف هذا العام، سيخلّد العالم ذكرى مرور مئة عامعلى اندلاع الحرب العالمية الأولى. وقد بدأت وسائل الإعلام بشكل فعلي تنشر مواضيع خاصة بهذه المناسبة، استعداداً لتخليد ذكرى هذه الحرب المروعة. فهل يقتصر الأمر هنا على استعدادات روتينية لتخليد هذه الذكرى، أم أننا نعيش شكلاً جديداً لإعادة قراءة التاريخ؟
هيرفريد مونكلار:تخليد الذكرى لا يمنع بالضرورة من إعادة قراءة الحدث. ففي الغالب تكون مثل هذه المناسبات فرصة لتسليط الضوء على موضوع ما وتحليله بدقة وهدوء. ويتّضح أن "الحرب الكبرى"، كما يسمّيها البريطانيّون والفرنسيّون والإيطاليّون، كان لها تأثير على العنف الذي شهده القرن الـ20. ويمكن للمرء أن يستخلص الكثير من العبر مما وقع، خاصة الأشياء التي كان من الممكن تفاديها. ولهذا يمكن أن أتصوّر بأن الأمر سيكون بمثابة تظاهرة كبيرة، ستتوقف من خلالها أوروبا على الأخطاء المرتكبة في النصف الأول من القرن العشرين، وذلك بهدف الاستفادة منها.
في ألمانيا نُطلق على الحرب التي دارت رحاها بين 1914 و1918 بـ"الحرب العالمية الأولى". لماذا عنونت كتابك بـ"الحرب الكبرى"؟
أولاً، لأن مصطلح "الحرب الكبرى" يختزن حمولة غريبة. وثانياً لأنه مصطلح يحمل دلالات خاصة بالنسبة للأذن الألمانية في كل الأحوال. فهذه الحرب، وصفت بالحرب الأوروبية في القرن العشرين. ويمكن القول أنه لو لم تقع تلك الحرب، لما شهد العالم الحرب العالمية الثانية. وربما لم يكن العالم ليشهد العهد النازي، ولا الحقبة الستالينية، ولا سيطرة البلاشفة على سان بطرسبرغ. فلو تم تفادي الحرب العالمية الأولى لكان القرن الـ20 مختلفاً. ولهذا أرى أن مصطلح "الحرب الكبرى" مناسب أكثر.
إذا كان للحرب العالمية الأولى هذا التأثير الكبير على الأحداث اللاحقة في القرن العشرين، فلماذا تحضر بشكل ضعيف في محاولات تعاطي الألمان مع ماضيهم مقارنةً مع الحرب العالميّة الثانية؟
يجب أن لا نخلط بين الأمور. فالحرب العالمية الأولى حاضرة بقوة كحرب كبرى في الدول المجاورة لنا من جهة الغرب كإيطاليا وفرنسا وبريطانيا. ويرجع ذلك إلى الخسائر البشرية الفادحة التي تكبدتها هذه الدول خلال الحرب العالمية الأولى، حيث جاءت أكبر مما كانت عليه في الحرب العالمية الثانية، بينما يختلف الأمر في ألمانيا، حيث تحضر الحرب العالمية الثانية بقوة نظرا لارتباطها بعمليات التشريد والطّرد التي ميزت هذه الحرب، وثانيا بالدمار الكبير الذي خلفته، بالإضافة إلى الجرم الذي اقترفه الألمان آنذاك. فعندما نتجه نحو الشرق، نجد هيمنة استحضار الحرب العالمية الثانية فيما يخص أحداث القرن العشرين، حيث يمكننا هنا أن نتحدث عن تباين في استحضار الحربين في ذاكرة دول الأوروبية الشرقية منها والغربية.
بعد مرور مئة عام على اندلاع الحرب العالميّة الأولى، بدأ الحديث من جديد عن من يتحمّل مسؤولية نشوب هذه الحرب. فما هو موقفك من مسألة البحث عن المذنب، وهل يقود ذلك إلى نتيجة ما؟
أرى في هذا السياق أن موضوع البحث عمن تسبب في اندلاع الحرب العالمية الأولى لن يفيد في شيء. فهذا جدل أخلاقي وربما مسألة قانونية، أو على الأقل هذا ما يشير إليه الفصل 231 من معاهدة فرساي الذي يحمل ألمانيا لوحدها مسؤولية اندلاع هذه الحرب. لكن هذا نقاش لا ينبغي أن نخوض فيه اليوم. فالأهم هو الحديث عن تحمل المسؤولية عوض التركيز على الأخطاء والقرارات غير الصّائبة. أعتقد أنّ ذلك هو ما يمكن أن يساعدنا اليوم بشكل أفضل، لكي نستخلص العبر بعد مرور مئة عام على اندلاع هذه الحرب.
ما هي المسؤولية التي كانت تتحمّلها الإمبراطورية الألمانية (الرايخ الألماني) وسط أوروبا في ذلك الوقت؟
هيرفريد مونكلار: لم تكن ألمانيا وقتها تعي دورها الجيو سياسي وسط أوروبا. ومع ذلك لا يمكن القول بأن هذه الحرب أو تلك كان يمكن تفاديها آنذاك، لكن كان بالإمكان الحدّ من اتساع رقعتها. الألمان كانوا يقودون صراعات مختلفة في نفس الوقت. فبالإضافة إلى الصراع في البلقان، كانت ألمانيا طرفا في نزاع مستتر حول أراضي الألزاس واللّورين، ودخلت صراعات في محاولة لإحكام سيطرتها على بحر الشّمال. في المجمل، كان ذلك بلادة سيّاسية.
بالعودة إلى طريقة التعامل مع الأحداث عام 1914، ما هي العبر التي يمكن أن نستخلصها اليوم من ذلك؟
ما هو مهم اليوم هو معالجة انعدام الثقة المتبادل بشكل استباقي من خلال التسويات المؤسساتية. وهذا ما نجح الأوروبيون في الواقع في تطبيقه من خلال منظمات مثل منظمة الأمن والتعاون الأوروبي والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (ناتو). وهذا أمر جيد إلى حد ما. من جهة أخرى، يجب الحذر من المشاكل التي قد تأتي من المناطق المتاخمة لنا. فالأمر كان يتعلق بحرب انطلقت شرارتها الأولى في البلقان. وهذا يعني أننا تعلمنا من ذلك عدم غض الطرف عن المشاكل القادمة من المناطق المجاورة لنا وعدم التقليل من أهميتها (...). مشكلتنا لا تتجلى فقط في منطقة البلقان بل أيضا في القوقاز ومناطق النزاع في الشرق الأوسط حتى المغرب العربي.
في كتابك ذكرت أيضاً أن آسيا يمكنها أن تتحول إلى منطقة نزاع. وقارنت بين الصين الحالية وبين الإمبراطورية الألمانية السابقة.
هيرفريد مونكلار: الصين دولة عملاقة وقوية، خصوصاً على المستوى الاقتصادي. أما سيّاسيّا، فتشعر أنها لم تحصل بعد على الاعتراف اللازم. وضع الصين الحالي يشبه في عدة زوايا وضع الإمبراطورية الألمانية عام 1914. ويمكن القول بأن المسار الخاطئ الذي اتخذته الأمور في أوروبا في عام 1914 يمكن أن يتكرر في الصين الحالية. فالسياسيون هناك ورجال الدولة مطالبون بالنظر بدقة في مسار ملابسات الحرب العالمية الأولى في أوروبا والأزمة الدبلوماسية التي وقعت في يوليو/ تموز من عام 1914، وذلك لتفادي نفس الأخطاء التي حصلت آنذاك.
هيرفريد مونكلار، أستاذ العلوم السياسية في جامعة هومبولدت ببرلين.