كتاب "الأسئلة المخفية: محاولة للاقتراب من الإسلام" أم للابتعاد عنه؟
٢١ أكتوبر ٢٠٠٧من لا يبتهج حين يقرأ كتبا في لغة أخرى، ليقرأها بعد ذلك مترجمة إلى لغته الأم؟ ألا يشعر هذا القارئ بنفسه أقرب إلى هذا الكتاب من غيره؟ وألا تفتح القراءة الثانية، ونعني هنا القراءة في اللغة الأم، آفاقا أخرى للمتعة وأبوابا أخرى للتساؤل وتبينُ عن قضايا نستها القراءة الأولى ومرت عليها، ولم تأبه لها؟
قارئنا يصطدم حين يمسك الكتاب المترجم بين يديه، بعنوان الكتاب الذي كثيرا ما يُقدم المترجم أو بالأحرى الناشر على تغييره. ليس في الأمر عيبا، إن كان التغيير ضرورة لغوية أو بلاغية، لكن يصبح التغيير عسفا وعصفا بأقدس ما في الكتاب إذا كان خاضعا لأسباب سياسية أو دينية. وبلغة أخرى إذا كانت وراء هذا التغيير سلطة الرقابة وهذا ما حدث فعلا مع كتاب فايدنر "إغراءات محمدية"، ليتحول عنوان الكتاب في الترجمة العربية إلى "الأسئلة المخفية: محاولة للاقتراب من الإسلام". وأقل ما يمكن أن يقال بشأن هذا العنوان إنه عنوان فضفاض، وإننا قد نسمي أي كتاب من الكتب الرخيصة الصادرة خلال السنوات الأخيرة بمثل هذا العنوان، ليس لأنه عنوان عام ويصلح لكل كتاب عن الإسلام، وليس أيضا لأنه عنوان طويل، ولكن خصوصا لأنه يعبث ببنية الكتاب المتشظية، والعابرة للأجناس، والتي يعبر عنها العنوان الألماني خير تعبير، فأصل كتاب فايدنر إغراء، والإغراء رغبة والرغبة سفر...
الإرهاب واحتقار الحياة
تكررت العملية مع كتب أخرى، حتى أنه يمكن الحديث عن نوع من رهاب العناوين داخل الثقافة العربية، فهذه دار توبقال مثلا تترجم كتاب عبد الوهاب المؤدب "مرض الإسلام" بعنوان آخر:"أوهام الإسلام السياسي"، رغم أن الكاتب يرى أن لب المشكلة يكمن في الإسلام نفسه، وأن الإسلام السياسي هو أحد عوارض المرض فقط. وهو ما يراه فايدنر أيضا، الذي لا يتوقف عند الحديث عن جرائم الإسلام السياسي فقط، بل يغور بعيدا في البحث عما أسماه بتشوهات الإسلام. ويعرج فايدنر في البدء على الحرب الأهلية الجزائرية، ويعرض لبعض الشهادات حولها، تلك الشهادات التي تؤكد أنها كانت حربا بين استئصاليين على الجبهتين، حربا لم تنج من أوارها حتى الحيوانات: " كانت رغبة مرضية في القتل، لم يتركوا شيئا قط، أي شيء في هذه القرية على قيد الحياة. لم يأخذوا العنز بل قتلوها وتركوها مرمية كما فعلوا مع البشر. شاهدت أربع قطط مذبوحة. لماذا القطط؟ كانت هناك دجاجة وحيدة مجروحة تتقافز، قطعوا رأس الأخرى وألقوها. كانوا يستطيعون أن يأخذوها معهم، يأكلوها، لكن لا، إنه الغضب المدمر، مطلق الاحتقار للحياة والقيم".
احتقار الحياة، تلك هي الكلمة الفصل، فنحن نعيش في ظل ثقافة، رسمية كانت أم أصولية تحتقر الحياة، وأبسط ما يمكن أن يقال عنها، أن لا علاقة لها بالإسلام، الذي حسب ما بلغني، لم يأمر يوما بقتل العنز ولا القطط ولا بذبح الدجاج لمجرد التسلية أو للتفريج عن عنف المكبوت.
ومحق كاتبنا حين يقول بأن الدين لا يطالب بالموت، بل الايدولوجيا وحدها من تطالب بذلك، وأن الشهادة إحدى إمكانات الدين وليست شريعته، وأن الانتحاري يهزأ أول ما يهزأ بالدين، الذي يرفض قتل الأبرياء.
حدود العقل وآفاق النص
لكن كاتبنا يخطئ حين يبحث عن جذور التخلف الحالي الذي تعيشه المجتمعات الإسلامية في الدين، وهو يشير إلى أن الإسلام، كما الأديان الأخرى يحمل تشوهات ولادية. إن نظرته الثقافوية تتناسى أن الإسلام ابن سياقه التاريخي، إنها تنظر إليه كدين مشوه أو مليء بالعيوب، لأنها نظرة سجينة ثقافتها الغربية التي أنتجتها، والتي درجت على سجن المختلف والمغاير في باب اللامعقول. إن إعمال المبضع العقلاني بالإسلام، مبضع العقل التنويري المكتفي بذاته والمستسلم إلى يقينياته، ليس أكثر من ممارسة للعنف وبسط للسيطرة على الآخر ومحاولة لتدجينه وتحويله إلى شبيه. فالعقل، هذا العقل، هو الجلاد كما يقول فوكو، ووحدة العقل، إن صح الحديث عن وحدة للعقل، هي في تعدد أصواته يقول هابرماس. أما العقل التنويري فلم يقتل الإله إلا ليصنع صنما شبيها به، وإحالة الدين على محكمة العقل غير شرعية، لأنها تبخس الدين، أي دين حقه. فهي تزعم "الرقي" به إلى مستوى العقل، وإخضاعه لدولة العقل، في حين أنها لا تهدف غير تحويله إلى نمر من ورق. الدولة الليبرالية في مقابل دولة العقل، تريدنا مواطنين في عوالم ووجهات نظر مختلفة، والدين أحدها، كما يقول أودو ماركفارد. فما يصطلح عليه فايدنر بالتشوهات، لربما هو ما صنع ويصنع هذا الدين، لكن لا يعني ذلك البتة أن نستسلم للدين كما هو. لا، فإن التأويل ضروري، والتأويل ابن التاريخ، وهو الذي يحافظ على علاقتنا مع الواقع ويحفظ صلتنا بالماضي، إن التأويل هو ما يصنع منا مواطنين في عوالم متعددة وبأبعاد وأسئلة مختلفة، وليس العقل والتأويل نفسه من يمنح الدين القدرة على الاستمرار والتأقلم والتعايش، ومن ينفخ بداخله روح التاريخ وليس التقديس المرضي لقراءة ضد قراءة.
وحدة الدين في تعدد رؤاه
كما يخطئ فايدنر، الذي ظل سجين عقله التنويري ولا شعوره الكولونيالي، حين ينتقد القرآن لأنه في نظره "يضج بالمتخالفات"، فغنى القرآن يكمن في تناقضاته، تلك التناقضات التي لا يفهمها عقل الأنوار والتي يرفض الأصوليون المتزمتون الاعتراف بوجودها، فتلك التناقضات من تسمح للمسلم بأن يصوم ويفطر، ويتيه ويؤوب، ويذنب ويعف، ويجد تبريرا للتدخين، واختيار امرأة أو رجل آخر، وليحيا في النهاية كما يريد، وهي من تجعل النص أكثر حياة ومضاء، من تصنع وحدته، فوحدة الدين في تعدد أصواته، في تناقضاته، في لبسه ووضوحه، ركاكته وبلاغته، غناه وفقره ولم لا في محاسنه وتشوهاته...
يبدأ الكتاب برحلة فايدنر إلى تونس وينتهي بعودته منها على متن باخرة إلى جنوا، شاب نهم باكتشاف الجديد، الكتاب يصف لقاء هذا الشاب بمجتمع ودين مختلفين، دين سيشغل باله ويؤرق فكره، اعتنقه أو أوشك على اعتناقه.. ويشمئز القارئ حين يقف على بعض ما جاء في الصفحات الأولى للكتاب والتي تتحدث عن سخرية الشاب من عنوان أولى سورة في القرآن، سورة البقرة، الذي اعتبره عنوانا سخيفا، وقد يقدم أي قارئ على إغلاق هذا الكتاب حين قراءة هذه الصفحات، لكنه سيفقد متعة مواصلة الرحلة، رحلة هذا الشاب الألماني عبر عالم عربي سقيم طيلة سنوات طويلة وعبر أفكار هذا العالم وقضاياه، وليتذكر القارئ بأن كاتبنا كان يومها، وهو يشمئز من البقرة ويفضل الخنزير عليها، صبيا في السادسة أو السابعة عشرة من العمر وليتذكر أيضا أن ليس على الصبي حرج!