فخري صالح: على المثقفين العرب التنظير لمطالب الحراك الجماهيري
٢ أغسطس ٢٠١١أثارت الثورات العربية الحالية نقاشا عميقا حول دور المثقفين والأدباء في هذه المرحلة، خاصة فيما يتعلق بدورهم في دفع عجلة التغيير والإصلاح ببلدانهم، بالإضافة إلى الصراع القديم الجديد مع النخب السلطوية، التي نجحت في تدجين عدد كبير منهم ليصبحوا جزءا من هياكلها. وأضحت مسألة تناول الثورات الحالية كمواضيع ثقافية وأدبية من قبل المفكرين العرب قضية ملحة كونها يمكن أن تنجح في تحويل هذه الأحداث إلى أعمال فنية تخلد ذكر هذه الثوراث.
ومن أجل التعرف على رؤيته وتقييمه لدور المثقفين العرب في هذه المرحلة التاريخية التي يمر بها العالم العربي حاورت دويتشه فيله الناقد الأدبي الأردني المعروف فخري صالح:
دويتشه فيله: هل كان للمثقف العربي أي دور في "تجييش" الحشود الشعبية للقيام بالثورات الحالية؟
فخري صالح: لا أعتقد أن هناك فعلا مباشرا للمثقف العربي في ما حدث خلال الأشهر القليلة الماضية، فلم نشهد الكثير من المثقفين في ساحات المظاهرات والاحتجاجات في المدن والعواصم العربية المختلفة. لكن الدور الحقيقي للمثقف يكمن وفق اعتقادي في عملية تهيئة التربة للمطالب الجذرية، التي نادى بها المتظاهرون في الساحات العامة خلال هذه الفترة.
المثقف العربي منذ بداية عصر النهضة، أي منذ منتصف القرن التاسع عشر نادى بمعظم القيم التي يطالب بها المتظاهرون في العالم العربي، ولهذا السبب أظن أن علينا ألا نحصر مسألة مشاركة المثقف السياسية والاجتماعية في الحراك الجماهيري والاحتجاجات الشعبية في هذه الفترة في مسألة المشاركة بالجسد، علينا أن نفهم الدور الملهم للمثقفين العرب الأساسيين والذين يؤمنون بضرورة مشاركة المثقف السياسية والاجتماعية، وأن نربط هذا الدور الملهم بحركة الاحتجاج المستمرة بالعالم العربي والتي تصاعدت في نهاية العام الماضي وبداية هذا العام.
يجب أيضا أن لا نغفل أن هناك العديد من المثقفين شاركوا في هذه الاحتجاجات سواء بالنزول إلى الساحات أو بالتنظير لحركة الاحتجاج في العالم العربي. من هنا أظن أن المثقف له دورا ملحوظا بصورة من الصور رغم العمليات التي مارستها الانطمة العربية في محاولة تهميشه أو محاولة استتباعه وجعله جزءا من آلة النظام.
ولاشك أن المثقفين لهم اهتمامات متمايزة عن بعضهم البعض، هناك مثقفون لهم علاقة بالأنظمة وينادون بأن يكونوا جزءا من النظام، وهناك مثقفون معارضون لهم آراء مختلفة، وحتى هؤلاء المعارضون لهم ألوان تتمايز عن بعضها البعض، هناك أشخاص يقفون بجانب اليمين وآخرون بجانب اليسار وآخرون ليبراليون في الوسط.
أنت تقول أن الخضات الكبرى في تاريخ العرب المعاصرين أطلقت أعمالا ثقافية كبيرة. هل يمكن أن تولد الثورات الحالية أعمالا ثقافية جديدة تدخل في إطار الأعمال الخالدة؟
أظن أنه من الصعب التنبؤ بما سيقوم به المثقفون والمنتجون الثقافيون في العالم العربي بعد ما حدث خلال هذه الحركة الكبيرة التي غيرت من وجه العالم العربي، وفتحت الباب واسعا على أفق ورؤية جديدين للعالم. إذا راقبنا التاريخ بصورة مدققة فإننا سنجد أن هناك أعمالا كبيرة أنتجت بعد الحروب والهزات والخضات التي أصابت المجتمعات المختلفة في العالم. لا يمكن تصور ظهور بعض الأعمال الأدبية مثل "الحرب والسلام" لتولستوي، و"الغرنيكا" لبيكاسو وغيرها، دون النظر إلى الأحداث التاريخية الكبرى.
لهذا يمكن القول إن ما حدث في العالم العربي خلال الأشهر الماضية يمكن أن يؤدي إلى ولادة أعمال كبرى ننتظرها في أعوام قادمة، حتى يستطيع الأدباء والمثقفون والفنانون أن يصلوا إلى تأويل لما حدث بالفن والخيال، لإعادة تركيب الأحداث وإنتاج أعمال فنية أظنها ستكون علامة على ما حدث في هذه الفترة التاريخية.
في ظل هذا العصر الرقمي واستعمال أشكال الاتصال الحديثة مثل الفايسبوك والتويتر، هل يمكن أن تظهر نماذج ثقافية عربية تساير روح العصر، وتتماشى وحاجيات الشباب الذي شكل عصب الثورات؟
لا شك أن ما يسمى بالعصر الرقمي سيؤثر تأثيرا فعليا على ما يحدث، وقد بدأ من هذه اللحظة يؤثر على عمليات التواصل بين البشر جميعا، وأصبحت السرعة هي الأساس الذي تنبني عليه الحياة سواء في الإعلام وحتى في الثورات التي حدثت، حيث أصبحت تسمى ثورات الفايسبوك أو حتى الثورات الفائقة التي تستخدم التكنولوجيا الحديثة.
كما أظن أن المسألة ترتبط ارتباطا جذريا بالتحولات الهائلة التي حدثت في عمليات التواصل. نحن الآن نشهد ولادة أنواع جديدة من الأعمال الأدبية والثقافية والفنية، على سبيل المثال الرسم لم يعد بالفرشاة بل أصبح يستخدم الكمبيوتر، وفي اليابان هناك روايات تستخدم الهاتف النقال. كما أعتقد أن العصر الجديد سيفرض أشكالا مختلفة من الكتابة ومن الفن، لأنه في مراحل سابقة كان الشعر يتسيد عالم الأشكال الأدبية، ثم عندما أصبحت الكتابة منتشرة في العالم بدأ الناس يكتبون الروايات والقصص، وصار السرد هو الذي يتسيد، ربما ستكون هناك أشكال جديدة في العالم وليس في العالم العربي فقط تعتمد على هذه التقنيات الحديثة.
هل يستطيع الأدباء والمثقفون العرب أن يكتبوا الثورات والانتفاضات الحالية في هذه الفترة بالذات، أي بالموازاة مع حدوثها؟
أظن أن الإجابة قد تكون نعم، وأنا متفائل بأن الأدباء والمثقفين العرب قادرون في المرحلة المقبلة على إعادة سرد ما وقع بطريقة تستخدم الخيال وتركب الصور المختلفة. لكن بعض الكتاب العرب سارعوا إلى الكتابة عن هذه الثورات من خلال أشكال فنية مختلفة مثل القصص والشعر، بل إن الأديب المغربي الطاهر بن جلون، الذي يكتب بالفرنسية كتب رواية عن البوعزيزي قبل أن يبرد دمه، وقبل أن تصل الثورة التونسية إلى قطف ثمار ما حصل في الأشهر الماضية. أظن أنه في الفن يصعب أن نكتب الأشياء بصورة مباشرة، في الوقت الذي لم تبرز فيه اللحظة التاريخية التي انفجرت فيها الثورات أو الاحتجاجات.
مشكله الأدب تكمن في أنه يحتاج نوعا من النظرة عن بعد إلى الأحداث، حتى يستطيع صياغتها بطريقة تجعل هذه الأحداث أمثولة من أمثولات التاريخ، بمعنى أن تصبح حدثا أساسيا يمكن أن يستلهمه الناس فيما بعد. قيل فيما مضى أن الشعر يستطيع أن يكتب الأحداث الساخنة، لكني أظن أنه هو الآخر يحتاج إلى هذه المسافة بين الحدث والعمل الفني.
وأظن أيضا أن السينما تستطيع أن تلتقط ما حدث وتعيد صياغته بطريقة مختلفة، وقد سمعت من بعض السينمائيين وبخاصة المصريين أنهم حينما كانوا يذهبون إلى ميدان التحرير أو إلى مناطق أخرى خلال الثورة المصرية، أنهم بسبب الوهج الكبير للحدث وعدم قدرتهم على الانفصال العاطفي عما يحدث، كانوا يضعون كاميراتهم ولا يصورون. أظن أن المسألة شديدة التعقيد في تحويل الأحداث إلى أعمال فنية، سواء كانت متوسطة أو صغيرة أو كبيرة، ونحن ننتظر مرور فترة من الزمن لنرى هل بالفعل يستطيع الكاتب والمثقف العربي وحتى المسرحي والنحات أن يجسدوا هذه الثورات التي قلبت وجه التاريخ في العالم العربي خلال الأشهر الأخيرة.
كخلاصة، هل تتوقع "تحرر" المثقف العربي من تدجين السلطة له ليعود إلى عمله البحث الذي هو صلب الثقافة؟
المثقفون ليسوا فئة واحدة، فبعضهم مع السلطة وسيظلون جزءا من هذه السلطة، لأنهم كما يقال في الثقافة العربية يحبون ذهب المعز ويخافون سيفه. هؤلاء الأشخاص قد يظلون عاملين في كنف السلطة ويحاولون أن يستفيدوا من أعطياتها.
لكن هناك بعض المثقفين الذين لهم موقف شديد الوضوح من السلطة، ويحاولون أن يكونوا دائما بعيدين عنها ويقفون إلى جانب تطلعات الناس والجماهير والفئات المهمشة في المجتمع. وشخصيا أومن بأن على المثقف أن يكون بعيدا عن السلطة، لأنه حالما يصبح جزءا من السلطة فان صفة الشاهد والقادر على نقد هذه السلطة وأفعالها، تنتفي في هذه الحالة. فأنا أومن بالتفسير الذي قدمه الناقد والمنظر الفلسطيني الأصل الأمريكي الجنسية ادوارد سعيد حول دور المثقف، الذي يجب أن يقول الحقيقة للسلطة أينما وجدت، ومهما كان اللون الذي اتخذته هذه السلطة، على المثقف أن يكون ناقدا للسلطة لا جزءا منها.
أجرى الحوار عبد المولى بوخريص
مراجعة: لؤي المدهون
حقوق النشر: دويتشه فيله 2011
*فخري صالح كاتب أردني ويعمل محررا في صحيفة "الدستور" اليومية، كما يرأس الرابطة الأردنية لنقّاد الأدب. حصل في عام 1997 على جائزة فلسطين في النقد الأدبي، وفي عام 2003 على جائزة "غالب هلسا" لإنجازاته في النقد الأدبي وترجماته للكتب الانجليزية إلى العربية.