علاء الأسواني: عواطفنا الدينية.. متى تحجب الرؤية؟
١٤ يوليو ٢٠٢٠إذا كنت مسلما فلا شك أنك مررت بهذه التجربة.
أن تؤدي صلاة التراويح في المسجد خلال شهر رمضان فينتابك التأثر من سماع القرآن وتجد نفسك فجأة تجهش بالبكاء. نفس هذه التجربة تحدث للمسيحيين في لحظة ما وهم يؤدون الصلاة في الكنيسة بل ان كثيرين من المسيحيين الكاثوليك تنهمر دموعهم من فرط التأثر عندما يستمعون إلى موعظة يلقيها عليهم بابا الفاتيكان. هذه التجربة الروحية تحدث في الأديان جميعا: عندما تسيطر العواطف الدينية على المؤمن فيستشعر الرهبة من الخالق ويتذكر الذنوب التي اقترفها في حياته ويرجو المغفرة من الله.
نفس هذه العواطف الدينية قد تجعل المؤمن يرى المعجزات.. في شهر ابريل 1968 تردد بين الأقباط ان العذراء مريم تظهر كل ليلة كطيف أبيض يحلق فوق كنيسة العذراء بمنطقة الزيتون في القاهرة. انتشر الخبر وأصدرت الكنيسة القبطية بيانا يؤكد المعجزة وصار آلاف المصريين (مسلمين ومسيحيين) يبيتون أمام الكنيسة ليشاهدوا طيف العذراء ويطلبون منها الشفاعة وترددت حكايات عن مرضى كثيرين قامت العذراء بشفائهم.
حكاية مشابهة حدثت بعد حرب أكتوبر عندما صرح بعض الجنود المصريين انهم رأوا الملائكة بجوارهم وهم يعبرون القناة ويقتحمون خط بارليف الاسرائيلي. هذه الحكايات لايمكن بالطبع انكارها أو التحقق منها لأنها تعتمد على العواطف الدينية الجياشة التي لا تعرف النقاش ولا تخضع للمنطق.
العواطف الدينية ظاهرة انسانية طبيعية ومقبولة مادمنا نمارسها داخل نطاق الدين لكن المشاكل تحدث دائما عندما نمارس عواطفنا الدينية خارج نطاق الدين. عندما يعلن البابا تواضروس دعمه السياسي للرئيس السيسي فان مكانة البابا المقدسة تدفع ملايين الأقباط إلى تبني موقفه السياسي لأن عواطفهم الدينية لن تسمح لهم أبدا بنقد البابا أو مخالفته في الرأي حتى لو كان سيادته يتحدث في السياسة التي لايجوز له الحديث فيها لأن سلطته روحية وليست سياسية. نفس الظاهرة تحدث في جماعات الاسلام السياسي حيث يستغل الشيوخ المشاعر الدينية عند ملايين الشباب ليلقنوهم تاريخا ملفقا لم يحدث قط.
إذا تحدثت مع شاب من الاخوان المسلمين أو السلفيين ستجد في ذهنه تصورا مبسطا ومزيفا للعالم: فهو يؤمن ان الاسلام في حالة حرب تاريخية ضد المسيحيين واليهود وهو يؤمن بوجود نظام اسمه الخلافة الاسلامية تآمرت ضده الدول الغربية حتى أسقطت الخلافة العثمانية عام 1924.. كما يؤمن الشاب الاسلامي اننا كمسلمين عندما اتبعنا تعاليم الدين نصرنا الله على الكفار وكنا نحكم العالم وعندما تركنا تعاليم الدين انهزمنا وأصبحنا مستضعفين ومتخلفين.
هذا الاعتقاد الراسخ لا يمكن زحزحته من ذهن أي شاب اسلامي ليس لأنه صحيح ولكن لأنه يستند بالأساس إلى العواطف الدينية. لقد أوضحت في محاضرات ومقالات عديدة ان الخلافة الاسلامية (بمعنى الحكم المستند لتعاليم الاسلام) لم توجد خلال قرون طويلة الا لمدة 31 عاما هي فترة حكم الخلفاء الراشدين بالاضافة إلى عامين حكم خلالهما عمر بن عبد العزيز. وحتى خلال هذه السنوات القليلة لم يكن الحكم الرشيد مستندا إلى نظام سياسي محدد له ضوابط، وانما إلى شخصية الخليفة كما أن الدولة العباسية لم تكن خلافة قط وانما كانت امبراطورية قامت مثل كل الامبراطوريات على المذابح والصراعات السياسية (وان كان هذا لايقلل من انجازها الحضاري).
كان معظم الملوك المسلمين في كل العصور يشربون الخمر كما أن الدولة العثمانية لم تكن خلافة وانما دولة استعمارية همجية اشتهرت بمجازر رهيبة ارتكبتها في حق كل الشعوب التي استعمرتها مثل اليونانيين والأرمن، أما في مصر فقد قتل القائد العثماني سليم الأول عشرة آلاف مصري غير محارب في القاهرة خلال يوم واحد بخلاف آلاف النساء والصبيان المصريين الذين خطفهم الجنود العثمانيون واغتصبوهم أو فرضوا أتاوات على أهلهم من أجل اطلاق سراحهم. ان المراجع التاريخية كلها تؤكد هذه الوقائع لكن الشاب الاسلامي المغسولة دماغه بواسطة الشيوخ لن يصدق ذلك أبدا، ولا يمكن ان يعترف بحقائق التاريخ لان أتباع الاسلام السياسي لا يبحثون عن الحقيقة وانما تسيطر عليهم مشاعرهم الدينية فتجعلهم يتشبثون بالتاريخ المزور الذي يلقنه لهم شيوخهم.
ان ممارسة العواطف الدينية خارج نطاق الدين يحجب رؤيتنا ويجعل منا مجموعة من المتعصبين الذين ينكرون الحقيقة ويرددون الشعارات الوهمية. ان تقدم المجتمعات العربية مستحيل مالم نقصر العواطف الدينية على النطاق الديني عندئذ فقط سنرى الحقيقة. هذا هو الأساس الذي تقدمت بفضله الدول الغربية عندما فصلت الدين عن الدولة وأصبح الغربيون يمارسون الدين فقط في الكنائس والمعابد وعندما يذهبون إلى البرلمان والحكومة يعكفون على دراسة الواقع بدون عواطف دينية. لقد كان فصل الدين عن الدولة مشروعا ديمقراطيا عرفته مصر وناضل المصريون لتحقيقه قبل أن يسيطر الجيش على السلطة عام 1952.
في عام 1937 عندما تولى الملك فاروق عرش مصر رفض مصطفى النحاس زعيم حزب الوفد أن يتم تتويج الملك الشاب في القلعة أو في الأزهر لما يحمله ذلك من طابع ديني سيجعل من فاروق سلطانا دينيا يستمد سلطته من الله ولا يخضع لمحاسبة الشعب بينما يفترض أن يكون فاروق ملكا دستوريا له صلاحيات محددة في الدستور.
خاض الوفد معركة عنيفة حتى انتصر وتم تتويج الملك فاروق في مجلس الشعب أمام ممثلي الشعب. لقد كان مصطفى النحاس متدينا لكنه كان يدرك خطورة خلط الدين بالسياسة.
بدون فصل الدين عن الدولة في العالم العربي لن نتقدم خطوة واحدة إلى الامام.
الديمقراطية هي الحل
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي مؤسسة DW.