رواية أزيز الرصاص في ''سنوات الرصاص''!
٧ أكتوبر ٢٠١٢زبانية الديكتاتوريون العرب وأزلام أنظمتهم لا يزالون مُتربّعين في أماكنهم، قابعين في الإدارات الحكومية وفي قلوب الناس الوجِلة خوفاً - هذا ما كتبه الروائي المغربي عبد الله طايع في يوم من أيام الجمعة في سبتمبر/ أيلول عام 2011 بمناسبة الثورات العربية.
طايع من مواليد عام 1973 في الرباط، وكان قد ثار بطريقته الخاصة قبل بضع سنوات ضد الآليات الاجتماعية التي عفا عليها الزمن في بلده: ففي عام 2006 كان طايع أول مؤلف من بلاده يعلن على الملأ بأنه مثليّ جنسياً، وذلك في مقابلة أجرته معه مجلة "تيل كيل" السياسية المغربية.
وبذا، حطّم أحدَ المحرّمات وأثار عاصفة من الغضب والعِداء. فالمجتمع المغربي، حتى وإن كان قد انفتح في بعض المجالات لاسيما في عهد الملك الحالي محمد السادس، إلا أنه في جوهره الأعمق بقي مجتمعاً شديد المحافظة - وخصوصاً في كل ما له صِلة بالعلاقة بين الجنسين.
ظِلال الماضي
هذه الهياكل المتحجرة، بما فيها السياسية، أبرزَها طايع في جميع كتبه السابقة - من خلال العودة إلى ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي باحثاً في مُسبِّباتها. ومن خلال روايته الأخيرة "يوم الملك" - الصادرة عام 2010 عن دار النشر "سوي" Seuil في باريس حيث يعيش طايع منذ عام 1999، يعود بنا طايع إلى تلك الفترة الزمنية. إنها مرحلة طلقات الرصاص أو الأعوام السوداء المعروفة في المغرب بسنوات الرصاص: وتَمَّ فيها تحت ظل حكم الملك السابق الحسن الثاني- والد العاهل المغربي الحالي - سَجْن الخُصوم غير المرغوب فيهم كما جرى اعتقال المعارضين في شكل جماعي وتَمَّ تعذيبهم وقتلهم.
تدور أحداث الرواية ذاتها في العام 1987، بمدينة صغيرة بين الرباط وسلا. وذلك في شهر يونيو/ حزيران، يوم الخميس - وهذا اليوم هو يوم الملك. في هذا اليوم سيمُرّ الحسن الثاني في الشوارع ليحتفل به رعاياه. ووسط الحشد المُنتَظِر يوجد صَبيّان اثنان لا يَظهَر على أحدهما أنه أكثر اختلافاً عن الآخر، غير أنهما صديقان حميمان: عُمَر، الراوي بضمير المتكلم والبالغ من العمر 14 عاماً والآتي من الضواحي الفقيرة، وخالد، وهو ابن عائلة ثرية والمتمتع بأصله وفئته الاجتماعية.
بوابة الحرية
بالنسبة إلى عُمَر - الذي عليه رعاية والده، بسبب تخلي زوجته عنه - يُشكِّل خالد الباب التخيُّلي لحرية قصيرة الأجل، عُمَر في الأساس محروم منها في الواقع. أما بالنسبة إلى خالد فيبدو عُمَر مخلوقاً غريباً من عالم غير معروف له، وهو شخص يتقاسم معه جميع الرؤى المظلمة التي يحكيها خالد، المُدلَّل الذي يشعر بالملل من حياته تحت الشمس، لصديقه غير المتساوي معه.
لكنّ ثمة شيئاً واحداً فقط لم يُخبر خالد به صديقه الحميم، وهو: أنه قد تم اختياره، بحكم أنه أفضل طالب في صفه، من أجل تقبيل يد الملك في ذلك اليوم. لم يعرف عُمَر بذلك إلا قبل يوم واحد، أمام جميع تلاميذ الصف، ومن فم مدير المدرسة نفسه. قبل ذلك بفترة وجيزة، كان عمر أخبر خالد بحلم سيِّء كان قد حلم به، وهو: أنه، أي عُمَر، كان عليه أن يأتي إلى الملك مقترباً منه - لكنه فشل في ذلك فشلاً ذريعاً.
المظالم الاجتماعية الأساسية، ولا سيما الفجوة غير القابلة للرّدم بين الأغنياء والفقراء، هي بالتالي الثوابت الحاسمة التي وسَمَ بها طايع العلاقة بينهما. من البداية، يعرف القارئ توزيع الأدوار؛ ومن البداية، تَسُودُ الأحداثَ آليةٌ مخيفةٌ لمأساة يونانية، يرتبط فيها المصير بِمَساره المحتوم. ولكن يوم الملك في هذه الرواية ذات الطابع الرسمي العالي هو كذلك اليوم الذي ينتقم فيه عُمَر - الضحية المفترضة للعلاقات الاجتماعية - انتقاماً قاتلاً بسبب الخيانة، التي ارتكبها ضده خالد، ابن الأغنياء والأقوياء.
من صديق إلى عدو
وفي الوقت ذاته يستخدم طايع في روايته بشكل متزايد صُوَراً مشحونة، وسَرْداً تعبيريّاً أقرب إلى القصص الأسطورية، ولكنها في الوقت نفسه صُوَر تشبه الأحلام: أولاً يستدرج عُمَر صديقه إلى الغابة - حيث تزول الفوارق الاجتماعية بينهما، ويلعب كلٌ منهما دور الآخر. وحين عودتهما إلى المدينة، يدفع عُمَر صديقه مُلقياً إياه من فوق الجسر، الذي يفصِل المدينة عن الريف، بمعنى أنه: يفصل الحديث عن القديم، وأغنياء المغرب عن فقرائه.
الصديق أصبح عَدوّاً، لكن الضحية بات هو الجلاد. لكن هذا لن يُغيِّر في ظروف الأحداث في شيء طالما بقي الأصل أو اللون أو الفئة الاجتماعية هي المُحدِّدات لقيمة البَشَر، كما يُبيّن طايع. ويعكس طايع في روايته الاحتقار الذي يعايشه المحرومون من حقوقهم، وذلك من خلال شخصيات أخرى: كشخصية الخادمة السوداء في فيلا خالد. فلَوْنها الأسْوَد هو سبب كافٍ للتمييز العنصري ضدها. إذْ يتخذها والد خالد عشيقة له - حتى يملّ منها ويسأم، ثمّ يطردها من العمل.
صُورة رمزية حادّة
والدة عمر أيضاً لديها بشرة داكنة، داكنة للغاية - كما أنها عاهرة. وبالنسبة لزوجها فإنها جيّدة بما يكفي لإشباع متعته الخاصة - لكنه لا يحترمها كزوجة وأم. فهي تخونه بالنهاية في بيته. وحين تترك زوجها يصبح الزوج طفلاً محتاجاً لرعاية ابنه. أي أن: هذا العالَم، الذي يُظهِره طايع بمهارة فنية وفي الوقت ذاته بصورة رمزيّة حادّة، هو عالَم ينقلب رأساً على عقب - ولكنه يسير بثبات في مساره السابق. كل شيء يَطْفَح بمذاق لاذع للظلم، لكن التغيير ليس مسموحاً به. ولكن حيث لا يُسمَح بالتغيير يحدث الانهيار، كما في حالة عُمَر.
المغاربة حوّلوا أنظارهم بعيداً عن ذلك منذ فترة طويلة بما فيه الكفاية، هذا هو ما أراد طايع التأكيد عليه في مقالته يوم الجمعة. لكن ها هُم الآن أخيراً ينظرون في أنفسهم وفي ماضيهم وتاريخهم وجنسهم، ويتساءلون: من نحن؟ وكيف وصلنا إلى هذه النقطة التي نحن فيها الآن؟
"يوم الملك" هي بالتالي رواية سياسية، رغم أنها تستخدم لغة شِعرية أقرب إلى أن تكون مُحَلِّقةً تحوم معبّرةً عن الألم والغضب والأمل لأمة تمّ تنفيرها لوقت طويل جدا عن نفسها: لأنها حُرِمَت لفترة طويلة للغاية من حقها في الكرامة والحرية الفردية.
كلاوديا كراماتشيك
ترجمة: علي المخلافي
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2012