حكايات الحدود: "معبر كاليه" هذه قصة المعبر الأخير
٤ يناير ٢٠٢٢في كاليه يقف مركز احتجاز اللاجئين الذي غطيت أسواره بأسلاكٍ شائكة كأنه سجن، وخارجه تصطف الطرقات التي تأخذك إلى عدة نقاطٍ في المدينة تقوم فيها الشرطة بدوريات منتظمة، لإخلاء المهاجرين من العديد من المخيمات المؤقتة المتبعثرة على جانبي الطريق، والتي تختبئ خلف الشجيرات والأشجار أحيانًا، أو حول المباني والمستودعات المهجورة.
يعلو صوت طيور النورس التي تبرز حزن المكان، بينما يغطي على هذه الأصوات أحيانًا أصوات العبارات وقوارب الصيد والنقل التي تنتقل عبر الأفق قبالة الشواطئ الطويلة والواسعة المحاطة بالكثبان الرملية.
حتى في يوليو/تموز، عندما زار "مهاجر نيوز" المكان كان الجو باردًا نسبيًا مقارنةً بصيف باقي المناطق الفرنسية، فيما اشتدت الرياح ما جعل النوم بالعراء بهذه الظروف صعبًا، خاصة عندما تكون أراضي التخييم المتاحة خشنة أو مليئة بالحصى أو مجرد مساحات موحلة تركها مهاجرون آخرون لصعوبة النوم فيها، لذا في الشتاء تتضاعف هذه المصاعب بالنسبة للمهاجرين الذين يملؤون المدينة.
مكانٌ واحد.. وحياتان مختلفتان
بالانتقال إلى وسط المدينة لن تستطيع إغفال الحضور القوي لمجتمعين متوازيين يعيشان بالفضاء ذاته، ربما كاليه ليست مدينةً غنية، حيث ترتفع معدلات البطالة حتى بين السكان الفرنسيين، بينما تبدو واجهات المتاجر فارغة والمباني متداعية، لكن في أجزاءٍ من المدينة لا تزال المطاعم والبارات مفتوحة، حيث يجلس الناس لتناول بعض البيرة أو المأكولات البحرية أو حتى لشراء زجاجة نبيذٍ جيدة.
وعلى الجانب الآخر ضمن مجتمع المهاجرين ينغلق القادمون على أنفسهم ضمن مجتمعاتٍ أصغر، كلُّ شخص يمضي وقته مع من يشبهه.. معظمهم صغارٌ بالعمر ويميلون إلى التمسك بمجموعاتهم العرقية، يمكنك رؤية الصومالي مع الصومالي والسوداني مع السوداني. صوماليون مع والإرتيري مع الإريتري حتى الكردي العراقي يمضي وقته مع الأكراد العراقيين فقط.
يميل أفراد هذه المجموعات الصغيرة والتي بغالبها مقسمة حسب العرق، لممارسة نشاطٍ واحدٍ كذلك، فقد تصادف مجموعة من الأفغان يلعبون الكريكت، بينما يخوض شبابٌ سودانيون مباراةٍ بكرة القدم، أو يقيمون نشاطًا لقصّ شعور بعضهم البعض.
لا يوحد هذه الانقسامات سوى نقاط توزيع الطعام، حيث تختلط الأعراق بانتظار الوجبة، إذ تمتزج الانتماءات أثناء انتظار الشاي والقهوة والشوكولاتة الساخنة والبسكويت، لتكون الأشياء الوحيدة التي تتجاوز الحدود هنا.. لا لحظة.. قد يحدث ذلك أيضًا التجمع حول المولدات لشحن الهواتف المحمولة.
رغم كل شيء.. هناك "ملاذ آمن"
يغامر المهاجرون في الغالب بالدخول إلى المدينة بعيدًا عن مركز الاحتجاز، للوقوف في طوابير من المنظمات للحصول على المساعدات، مثل Secours Catholique (جمعية الإغاثة الكاثوليكية التي تساعد المهاجرين)، في الأيام التي يفتتحون فيها مركزًا نهاريًا للمساعدات.
لكن عدا عن ذلك، تبقى مجموعات المهاجرين أكثر في ضواحي المدينة، تتجمع حول النار أو السيارات المحترقة للحصول على الدفء، بينما يجردون السسيارات من مقاعدها لاستخدامها في الجلوس وتقديمها لقادة هذه المجموعات غير الرسميين، هؤلاء الذين يتحدثون باسم المجموعات ويقررون ما إذا بإمكانهم الحديث مع الإعلام أم لا، كذلك تكون مهمتهم التأكد من الحفاظ على النظام في المخيم والالتزام بأعراف المكان غير المكتوبة بلائحة القوانين.
جمال المهاجر الذي وصل إلى كاليه من السودان بوقتٍ سابق لكنه يعمل كمتطوع حاليًا مع جمعية "الإغاثة الكاثوليكية" يقول: "خطتي عندما غادرت السودان كانت أن أذهب إلى بلدان أخرى، حيث يمكن أن يكون الوضع آمنًا بالنسبة لي وحيث يمكنني أن أحظى بحياة جيدة". لكن جمال الذي يدرس إدارة الأعمال في الجامعة بالإضافة لعمله التطوعي يعتمد على إتقانه للفرنسية والإنجليزية والعربية بطلاقة للمساعدة في التوسط مع مجموعات من مواطنيه الذين يحضرون المركز لغسل ملابسهم ولعب كرة القدم والحصول على المشورة القانونية أو اللغوية من المتطوعين هناك.
يعتبر المركز ملاذًا آمنًا للمهاجرين، ولهذا السبب لا يسمح المتطوعون الذين يديرونه بالتصوير داخل جدرانه، ما جعلهم يشعرون بارتباك مع وجود مايكروفون "مهاجر نيوز" لذا طُلب منا المغادرة.
أعداد متزايدة
مسؤول المركز النهاري جاكي فيرهايجن يوضح أن "عدد الأشخاص العالقين في كاليه ازداد منذ نهاية الشتاء، إذ عادة ما يكون الأشخاص الذين علقوا أطول وقت هنا في كاليه هم الأشخاص الذين لديهم أقل قدر من المال، لذا فهم يحاولون جمع مجموعات صغيرة من الناس ومحاولة شراء قارب صغير لأنفسهم ... إنهم يحاولون بأنفسهم العبور، بدون مهربين".
بالنسبة لأشخاص مثل آوات، الذي يقول إنه يبلغ من العمر 17 عامًا، رغم أنه يبدو أكبر من ذلك بكثير، تبدو رحلتهم شاقة، فبحسب آوات فإنه وصل من ليبيا إلى فرنسا عبر مالطا بعد أن احتجز فيها لنحو 6 أشهر.
"أشعر بالحزن في كاليه" يقول آوات الذي لديه أمل بأن تكون الحياة في إنكلترا أفضل، ويضيف "أنا فقط أبحث عن حياة طيبة ومكان جيد بدون أن تكون تحت خطر القتل والحرب ولا يمكن لأحد أن يضايقك". يأمل آوات كذلك بأن تقدم له المملكة المتحدة بداية جديدة فأصدقاءه قد وصلوا هناك بالفعل إلى مدينة ليفربول الساحلية الشمالية.
معلوماتهم قديمة
لدى بعض الحالمين بالوصول إلى المملكة المتحدة معلوماتٌ منقوصة إذ يوضح جاكي أنه على الرغم من محاولته إخبار الناس أنه يمكنهم أيضًا التقدم بطلب للحصول على اللجوء في فرنسا ولديهم فرص مماثلة بفرنسا، إلا أنهم لا يصدقونه، ويقول: "إحدى المشكلات الرئيسية هنا هي جودة المعلومات المقدمة إلى المنفيين بهذا المكان، بالأساس ما يعرفونه عن المملكة المتحدة هو ما سمعوه من شخص يعرف شخصًا ربما عاش هناك لمدة 25 عامًا، وبالنسبة لشخص قديم تعتبر المملكة المتحدة مكانًا جيدًا، لكنه وصل قبل أن تصبح قوانين الهجرة أكثر صعوبة".
يضيف جاكي أنه عندما يحاول أن يشرح لهم قواعد الهجرة الحالية، يعتقدون أنه يحاول منعهم من الوصول إلى تلك الحياة الأفضل، وبرأيه أنهم لا شيء سيثنيهم عن هدفهم.
لكن ريثما يحققون مبتغاهم تتكاثر المشكلات بحسب جاكي الذي يشرح: "بالأمس، قام رجل سوري للأسف بركل دلو من الماء وانسكب الماء على رجل سوداني وكان هناك توتر بسبب ذلك"، ويضيف أن التوتر بأغلبه ينشأ من الظروف المعيشية الصعبة للغاية التي يجد معظم المهاجرين أنفسهم فيها.
كل شيء يمكن أن يفجّر مشكلة
برأي جاكي أن "الافتقار إلى كل شيء من الطعام إلى الوصول إلى المياه والمراحيض الجيدة وعدم القدرة على الاستحمام يجعلهم متوترين، "لذا يمكن لأي شيء أن يصبح مشكلة حقيقية إذا لم ننتبه".
أثناء توزيع الطعام الذي تديره جمعية Care4Calais الخيرية الأنجلو-فرنسية، والتي يعمل بها متطوعون من جميع أنحاء أوروبا والمملكة المتحدة، وقف أحمد للتو لتناول فنجان من القهوة، إنه محبط كما يقول إذ حاول التقدم من خلال جميع القنوات القانونية للانضمام إلى زوجته في المملكة المتحدة ولكن تم إيقافه، لذا يشعر أن السبيل الوحيد المتبقي له هو ركوب قارب.
أحمد من السودان أيضًا ووصل إلى فرنسا بتأشيرة عمل حيث تقدم بطلب لجوء، على أمل الالتحاق بزوجته بعد ذلك. يقول أحمد بمرارة: "أنتظر منذ عامين دون رد، أفعل كل شيء جيد هنا في فرنسا، أتعلم الفرنسية، وبدأت أتحدث بها جيدًا".
التهريب "ليس خيار"
تكمن مشكلة أحمد بأن زوجته لا يمكنها التقدم بطلب لم الشمل ما لم تكن تكسب نحو 18 ألف جنيه إسترليني سنويًا أي ما يقارب 21000 يورو، لكن كأم عزباء، لا يمكن لزوجته أن تقترب من هذا المبلغ، ولذلك يشعر أحمد أنه أُجبر على القيام برحلة غير قانونية من أجل الانضمام إليها. يقول وهو يهز رأسه: "لا يمكننا أن نعيش حياتنا بشكل طبيعي مثل الآخرين، سنة بعد سنة، نعيش هكذا".
الرحلة التي سيضطر أحمد لسلوكها تعمل الحكومتين البريطانية والفرنسية لمحاربتها، ولكن مع اشتداد خطابهما وضوابطهما هذا العام، حاول المزيد والمزيد من الناس الوصول إلى المملكة المتحدة عبر القوارب الصغيرة، بحلول نوفمبر وصل أكثر من 25000 شخص إلى الساحل الإنجليزي، وذلك أكثر بثلاثة أضعاف من الواصلين عام 2020.
وغرق 27 شخصًا في 24 نوفمبر/تشرين الثاني لم يمنع المهاجرين من ركوب القوارب، كما توضح إيموجين، أحد قادة فريق Care4Calais: "كل من نلتقي بهم يهربون من وضع مروع في وطنهم". وتقول إنهم مصممون للغاية على الوصول إلى المملكة المتحدة، ولن يوقفهم شيء، ولا حتى عمليات الإخلاء المستمرة أو القواعد الجديدة، مضيفة: "سواء كانت الحرب أو الاضطهاد، فقد اضطروا إلى ترك عائلاتهم وأصدقائهم وكل ممتلكاتهم وراءهم، إنهم أناس يتمتعون بالمرونة بشكل لا يصدق".
انظر إليهم كأفراد وليس كمجموعة
تعمل إيموجين في كاليه منذ أكثر من عام، وخلال ذلك الوقت، تعرفت على العديد من المهاجرين الذين يحضرون نقاط التوزيع التي تديرها، تقول: "كما تعلمون، هم أشخاص لديهم عائلات، ويتمتعون بمهارات مذهلة، مضحكون ولطفاء ويحبون الرياضة والدردشة، وهذا أمر مهم حقًا أننا ندرك أنهم ليسوا مجرد مجموعة من الأشخاص بل هم أفراد لديهم أشياء لا تصدق ليقدمونها أيضًا".
بنظر إيموجين فإن جزءًا من المشكلة هو أن هؤلاء الأفراد قد تم تجميعهم معًا وتحويلهم إلى مشكلة، ما يشير إلى أن السياسة أحيانًا يكون لها عواقب وخيمة، ولا تخفف من الموقف الذي تتعامل معه هي والجمعيات الخيرية الأخرى في كاليه.
وتلفت إيموجين إلى أشخاص مثل محمد، الذي يحلم بالدراسة في جامعة أكسفورد في المملكة المتحدة، لكن مع عدم امتلاكه للمال فإن القارب ليس خيارًا له، لذا بدلاً من ذلك يحاول كل ليلة تسلق الأسوار حول الميناء وصعوده إلى شاحنة، إنه يعرف عن عمليات المسح والكلاب والفحوصات المتكررة، فبعض أصدقائه تعرضوا للأذى والعض من الكلاب وكسر في أرجلهم، لكنه يهز كتفيه ويقول بثقة هادئة: "سيأتي حظي في يوم من الأيام".
مهاجر نيوز - إيما واليس/ ر.أ