جولة في طرابلس اللبنانية..عند خط التماس بين السنة والعلويين
٤ يونيو ٢٠١٣تُعَد ثاني أكبر مدن لبنان، بعد بيروت. هي صلة الوصل ما بين الشاطيء الشرقي للبحر الأبيض المتوسط والداخل السوري. تفصلها عن العاصمة اللبنانية مسافة 85 كم (شمال) و 40 كلم عن الحدود السورية. تُكنى بالفيحاء، وفي أرجائها "يُعانق" الحاضرُ إرثَ التاريخ ومعالمه. إنها باختصار ”مدينة طرابلس" اللبنانية، مرآة السياسة اللبنانية ودول الجوار.
تضرب طرابلس جذورها في عُمق التاريخ. أسَّسها الفينيقيون، وتعاقبت عليها الأمم والعهود من الفينيقيّين حتى الانتداب الفرنسي، مروراً بالرومان، البيزنطيّين، العرب، الفرنجة، المماليك والعثمانيين، وهي اليوم تَخُطُّ "بالرصاص" صفحة جديدة في كتابها، و"تُدوّن" بالدم معاركَ ومناوشاتٍ تكاد تكون يوميةً على محاورِ قتالٍ، تشتعل كلما تأزم الداخل اللبناني، أو ثار الجوار العربي.
في طرابلس، أبرياء يسقطون برصاص القنص، بؤساء يئنون تحت خط الفقر، أطفال يلهون بالسلاح، وأهاليهم يتباهون "برجولة" أبنائهم. وهنا ستجد أيضاً ناشطين من المجتمع المدني أرهقتهم الحرب فملّوها، وأغنياء ينشغلون "بالأرقام" حتى يكاد الإنسان يصبح رقما في صندوق اقتراع ليس إلا، فماذا بعد في أحوال أبنائها؟
مشهدان وشارعٌ فاصل
المشهد الأول: "باب التبانة": وهي منطقة واقعة في الطرف الشمالي من المدينة. كانت في الماضي تُسمى "بوابة الذهب" حيث أن جميع أهالي الريف والمسافرين إلى سوريا كانوا يتبضعون من أسواقها. أهلها ينتمون بمعظمهم إلى الطائفة السنية.
المشهد الثاني: "جَبَل محسن" وهو عبارة عن مرتفع جبلي صغير يُطل على وسط طرابلس. معظم سكان الجبل البالغ عددهم 80 ألفاً هم من أبناء الطائفة العلوية.
تُبين الوقائع، أنه ومنذ ما قبل الحرب الأهلية وحتى يومنا هذا، بقيت جبهة باب التبانة- جبل محسن مشتعلة تحت عناوين كثيرة، تبعاً ليوميات السياسة. ومعلوماً، أنها الجبهة الأكثر توتراً وسكاناً وفقراً، وهي الأكثر احتقاناً مذهبياً بين السنة والجماعة الإسلامية والعلويين. وبين المنطقتين شارعٌ فاصل، هو شارع سوريا، أو خط التماس الأشهر، ومنه تتفرع طرق داخلية.
إحترس أنت في طرابلس!
نحن الآن في منطقة مُطلة على شارع سوريا. الهدوء الحذر يسود حاليا. القناصة من الجانبين يرصدون أي حراك غير اعتيادي. لكن مهلا، كيف يؤمن سكان المنطقة لقمة عيشهم، كيف يتنقلون، ويذهبون إلى أعمالهم؟ نطرح السؤال على "شادي"، وهو اُبن المنطقة فيقول لـ DW إن "الكل يقصد الطرق الداخلية للاحتماء من الرصاص. لقد اعتدنا حالة الحرب. أصبحنا نتطلع إلى أن نحيا يومياتنا وحسب. غالبية العائلات باتت تبحث عن فرصة عمل في المناطق الهادئة، ولكن لا بُدّ من المجازفة (...)".
يرافقنا شادي في جولتنا، ويلفت انتباهنا إلى بعض النقاط الهامة –برأيه- للتنقل على خط النار، ويقول مُنبهاً:
- إبقَ دائما في الأحياء الداخلية ولا تخطو ولو حتى خطوة واحدة باتجاه شارع سوريا.
- أبعد الكاميرا عنك، ففي أي لحظة يمكن أن يظهر أمامك مسلح ويشترط عليك دفع مبلغ من المال مقابل التقاط الصور، أو يحطم آلة التصوير، وبعض المسلحين (من الجانبين) بات يحاول استغلال الصحافيين وابتزازهم بالمال.
- لا تُظهر تعاطفا مع أي شخص، فثمة من يرصد وينقل معلومات.
رفض الاقتتال..والانكسار ايضا!
كيفما جلت بناظريك ستلاقي صور ضحايا سقطوا في الاقتتال، ويصفهم المقاتلون بـ "الشهداء". في طريقك ستصادف الكثير من الدشم، وهي عبارة عن أكياس معبأة بالرمل للحماية. الحياة هنا ليست طبيعية تماما، ولكن ثمة حراك ما. مواطنون يحاولون ابتياع بعض الاحتياجات، وهذه فرصة لبعض الدردشات. "سميرة"، فتاة في العشرين من عمرها، تقول لـ DW: "علينا العملُ مهما اشتدت الظروف، فمن لا يعمل يموت جوعا. أنا أعارض كل أشكال الاقتتال، ولكن نرفض في الوقت عينه الانكسار". في صوت "سميرة" نَبْرَة تحدي. هي تنتمي لباب التبانة، مثلها مثلَ "رُبى" التي ترافقها. الأخيرة تقول لـ DW إن "مسلحي جبل محسن يبدأون القنص بأوامر مباشرة من النظام السوري، ولو أردنا لقضينا عليهم ولكن الجيش يفصل بين الجانبين منذ 30 عاما"، وهذا ما يروق لسميرة، وتُعارضه "فريال"، التي ترى أن "أهالي التبانة يريدون القضاء على العلويين. نحن في جبل محسن محاصرون جغرافيا بمحيط سني (...)".
عند "طَلْعَة العُمَري"، تبدو أثار الرصاص جلية. هنا يستوقفنا شاب، لمّا يتجاوز بعدُ الـ 20 من عمره، يحاول جمع الرصاص الفارغ وشظايا القنابل. ندنو منه لاستيضاح ما يفعل، فيُعرّف عن نفسه بأنه "أُسامة البيّاع": "اعتدت منذ فترة، التجول في الشوارع لجمع الرصاص وبيعه لبائع الحديد، فأستحصل على مردود مادي جيد (...)".
يأس وإحباط بطعم البارود
DW عربية تحدثت إلى أكثر من مواطن عن الأمل بالغد، والطموح المهني، فكانت إيجابات تغلب عليها السوداوية. "ريان"، طالب جامعي إلتقيناه وهو يتفقد منزلَ ذويه. يقول لـ DW إن "الطلاب يائسون، ويسعون للحصول على شهادة جامعية والهجرة إلى خارج لبنان أو أقله المغادرة إلى بيروت أو أي منطقة هادئة". ويعقب "رمزي" على كلام "ريان" قائلا: "لا يمكنك تحصيل علومك بهدوء، فكرك يبقى منشغلا ومشتتا بين الرصاص، والمستقبل القاتم (...)".
قبل سنتين من اليوم أطلق الدكتور جمال بدوي مبادرة "ربيع طرابلس"، للنهوض بالمجتمع المدني ووقف الاقتتال. بدوي تحدث لـ DW صراحة عن حال من اليأس تتملك السواد الأعظم من أبناء عاصمة الشمال، ويقول: "أكاد أجزم أن الكل يائس، ونسبة المتفائلين واحد بالألف إذا لم يكن أقل، ومعنى ذلك إن التفاؤل شبه معدوم". ويضيف:"عمليا يقوم المجتمع المدني بنشاطات ولكنها تبقى محدودة النتائج لاعتبارات منها السياسية ومنها غياب الدعم الكافي، ولكن نشاط المجتمع المدني يكبر ككرة الثلج". ويشبه بدوي الحراك المدني بالمثل الشعبي القائل: "تراه يرقص مجروحاً من الألم". ويكشف د. بدوي عبر DW أن الأيام القليلة المقبلة ستشهد حراكاً مدنيا هو الأول من نوعه باتجاه مناطق الاقتتال.. ولكنني متشائم بحل قريب، مثل كمثل غالبية أهل طرابلس".
يوماً بيوم، تعيش طرابلس اللبنانية يومياتها. طلابها ومثقفوها يشيحون بنظرهم عنها. "الصورة حتى اللحظة سوداوية"، بلسان "الطرابلسيين"... ولكن "الآمال الكبيرة مفتاح كل شيء".