جنازة الحريري والنفق المظلم
تم أمس مواراة جثمان رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري الثرى في باحة مسجد الأمين في العاصمة بيروت، وسار خلف النعش مئات الألوف من المواطنين الذين رفعوا صور الراحل ولافتات أحزاب المعارضة. وتمت المراسم بحضور عدد كبير من الشخصيات السياسية المحلية والعالمية، فإضافة الى رموز المعارضة اللبناينة شارك أيضاً الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى إلى جانب الأخضر الإبراهيمي ممثلاً للأمين العام للأمم المتحدة، ومساعد وزيرة الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأوسط وليم بيرنز، ووزير الدولة في وزارة الخارجية الألمانية هانز مارتن بوري. كما وصل أيضا الرئيس الفرنسي جاك شيراك إلى بيروت لتقديم واجب العزاء لأسرة الراحل. يذكر أن الرئيس الفرنسي كانت تربطه علاقة شخصية قوية بالحريري حتى قبل تسلم الأخير منصب رئاسة الوزراء في لبنان. أما الغائب الأكبر عن الجنازة فكان رئيس الجمهورية إميل لحود وأركان حكومته بسبب رفض عائلة الحريري لأية مشاركة رسمية في الجنازة رفضاَ قاطعاً.
وقد أدخل اغتيال الحريري لبنان في نفق مظلم، ربما سيحتاج وقتاً طويلاً ليخرج منه. فالمشهد اللبناني لا يزال على درجة عالية من التعقيد والحساسية رغم مرور أكثر من خمسة عشر عاماً على نهاية الحرب الأهلية الدامية. على الصعيد الداخلي فقدت الطائفة السنية رمزاً من رموزها وقائداً يصعب تعويضه، فقد كانت الطائفة تعاني من تفرقها وتبعثر كلمتها، غير أنها وجدت في الحريري شخصية تجسدها على الساحة اللبنانية. لذلك ينذر غياب الحريري بتجدد الحساسيات الطائفية في لبنان. وعلى الصعيد الخارجي تأخذ حادثة اغتيال الحريري بعداً دولياً واسعا نظراً للثقل الكبير الذي تمتع به. ويتوقع المراقبون أن تتزايد الضغوط الدولية على لبنان وسوريا لتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 1559 القاضي بخروج القوات السورية من لبنان لضمان استقلاليته، وذلك على خلفية انضمام الراحل إلى معسكر المعارضة التي تميل بمختلف أطيافها، باستثناء التيار الشيعي، إلى علاقة متوازنة مع سوريا.
تحرش أمريكي
برغم أن واشنطن لم توجه أصابع الاتهام مباشرةً إلى سوريا إلا أنها سارعت الى تصعيد حملتها على النظام السوري وتوجيه انتقادات حادة إليه، فقد أعلنت وزيرة الخارجية الأمريكية رايس في لقاء صحفي معها يوم الثلاثاء في واشنطن أن سوريا تشكل مشكلة حقيقية. وجددت رايس اتهامات واشنطن للنظام السوري برعاية الإرهاب وإيواء جماعات متطرفة فلسطينية بالإضافة إلى دعم الجماعات المسلحة في العراق. كما استدعت الولايات المتحدة سفيرها لدى سوريا لإجراء مشاورات عاجلة لإظهار استياءها البالغ من اغتيال الحريري، وقال مسؤولون أمريكيون أنهم يبحثون فرض عقوبات جديدة على سوريا بسبب رفضها سحب قواتها من لبنان. أما وليام بيرنز مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية فقد دعا على هامش حضوره جنازة الحريري إلى انسحاب فوري وكامل للقوات السورية وطالب بفتح تحقيق فوري في حادث الاغتيال.
السفير السوري في واشنطن رد على الادعاءات الأمريكية في حوار له على قناة السي إن إن قائلاً: "ليس لسوريا أي مصلحة في ما حدث". وأشار الى أن هناك جماعات معينة تحاول الإساءة إلى سوريا في مخطط لا ينتهي بقتل الحريري، بل يستمر من خلال توجيه أصابع الاتهام إلى سوريا. كما أوردت جريدة الحياة الصادرة في لندن تصريحات لمصادر رفيعة المستوى لم تذكر اسمها تتهم فيها أطرافاً في المعارضة اللبنانية باستغلال جريمة اغتيال رفيق الحريري لأسباب انتخابية. يذكر أن علاقات الحريري بسوريا كانت دافئة، فهي تعود إلى نحو 25 سنة ماضية ساهم فيها عبر شركة "أوجيه" للمقاولات التي قامت ببناء منشآت ضخمة بينها قصر المؤتمرات وقصر الشعب الحكومي وفندق ايبلا، كما ذكرت الصحيفة أن الراحل اشترى أرضاً في سوريا لبناء منزل ريفي.
احتقان داخلي
يعكس تباين الآراء الصادرة داخلياً عمق الهوة التي تفصل بين أطياف المعارضة المختلفة وبين الحكومة، لكن بعض المراقبين يرى أن غياب الحريري لن يفتح باب الحرب الأهلية مرة أخرى، فالمعارضة التي كان ينتمي لها الراحل تضم تيارات من مختلف الطوائف، وكانت تقوم بتنسيق مواقفها بمعزل عن انتماءاتها الطائفية.
في هذا السياق اتهم وليد جنبلاط رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي المعارض الحكومة اللبنانية مباشرةً باغتيال الحريري، وقال في تصريحات أدلى بها على هامش مشاركته في عزاء رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري: "السلطة اللبنانية المدعومة من أجهزة الاستخبارات السورية أباحت دم المعارضة عندما اتهمتها بالخيانة وبالعمالة للولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وإسرائيل". وطالب جنبلاط بحماية دولية للبنان. أما العماد ميشيل عون المعارض اللبناني المقيم في فرنسا فقد اتهم سوريا بعملية الاغتيال، معتبراً أن دمشق تريد إخضاع الشعب اللبناني باغتيال قياداته. ومن ناحيتها رفضت الحكومة تصريحات المعارضة، ودعا الرئيس اللبناني اميل لحود إلى عقد مؤتمر وطني بين الأطياف المختلفة للاتفاق على خطة لإنقاذ لبنان.
أوروبا تلتزم اللغة الدبلوماسية الحذرة
أوروبياً صرح خافيير سولانا مفوض الاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية أنه لا يرى بعد عملية اغتيال الحريري حاجة ملحة لإجراء تغييرات على العلاقات الأوروبية مع سوريا، وفي نفس الوقت أعلن عن دعمه لإجراء تحقيق دولي حول العملية. وكان مجلس الأمن الدولي طالب الأمين العام للأمم المتحدة كوفي انان بتقديم تحقيق في ظروف وأسباب وانعكاسات مقتل الحريري الذي جاء بعد أشهر من إصدار المجلس قراراً يدعو إلى انسحاب القوات الأجنبية من لبنان.
وفي تطور آخر يزيد من لائحة المشتبه بهم أورد موقع الجزيرة أن زعيم التجمع الوطني الديموقراطي وعضو الكنيست عزمي بشارة أشار الى أن إسرائيل قد تكون وراء العملية، مستبعداً أن تكون لسوريا دور في تنفيذها أو تخطيطا. وتأتي اتهامات بشارة في سياق رؤيته لمحاولات تتم الآن لزعزعة الاستقرار في لبنان، وذلك على خلفية الجدل حول قرار مجلس الأمن 1559. وحرص بشارة على التأكيد أنه لا يملك إثباتاً على ما يقول، لكنه لا يلغي احتمال تورط إسرائيل أو أمريكا في العملية.