تونس "الخضراء".. من "مطمور روما" إلى بلد يعاني من العطش
١٢ أبريل ٢٠٢٣قرر علي السعيدي البالغ من العمر 56 عاما والحاصل على شهادة جامعية في تخصص التقنية، التفرغ للعمل في القطاع الزراعي بعد أن فقد عمله في القطاع الخاص منذ نحو عقد. بيد أنه وعلى المدى المتوسط قد يواجه المصير ذاته إذا ما استمرت التحولات المناخية في التأثير بقوة على وضع الموارد المائية المهددة في تونس.
مع بدء سريان قرار السلطات بقطع مياه الشرب لسبع ساعات ليليا وفرض نظام الحصص في توزيعه واستخدامه، اضطر السعيدي لملء صفائح بالمياه لمواجهة احتياجاته في ضيعته بالنهار، ومع ذلك يشكو لـDW عربية بأن قطع المياه يمتد أيضا في بعض الحالات إلى عدة ساعات في النهار.
تعاني تونس من أخطر أزمة مائية في تاريخها على الإطلاق. ويمكن ملاحظة ذلك عبر تدني معدل استهلاك الفرد الى أقل من 400 متر مكعب سنويا وهو قرابة نصف المعدل الاعتيادي عالميا، حيث تحدد منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (فاو) معدل استهلاك الفرد لضمان العيش الكريم والاحتياجات الحياتية ما بين 700 و900 متر مكعب سنويا.
ومشكلة تونس في إدارة مواردها المائية تبدو معقدة وذات أسباب بعيدة تعود إلى عقود. حيث يؤكد الخبراء أن هذه الازمة ليست بالأمر المستجد ولكنها آثارها باتت مضاعفة بسبب آثار الاحتباس الحراري.
ويقول المزارع علي السعيدي لـDW عربية في سخط "كل التجارب الفلاحية والصناعية التي تم التخطيط لها في تونس فشلت. نجحت سنغافورا وكوريا الجنوبية في حين فشلنا نحن وفي كل مرة نتلقى ضربة. أضف إلى ذلك الأزمات السياسية. الوضع معقد والجبهات متعددة للإصلاح".
جفاف وأمن غذائي مهدد
في منطقة "برج الطويل" الريفية الواقعة بالمدخل الشمالي للعاصمة حيث تمتد مساحات واسعة من الأراضي الزراعية على الطريق الرابط بمدينة بنزرت أقصى شمال البلاد، تبدو الآن الأزمة مضاعفة لأن المنطقة تفتقد الى مياه كافية لري الأراضي.
وضعت السلطات منذ ثمانينات القرن الماضي مشروعا لاستخدام المياه المستعملة عبر تصفيتها لكن مع مرور الزمن تراكمت الأوساخ في شبكات نقل المياه وانتهى الأمر بانسداد الأنابيب التي باتت مهملة اليوم.
وليس هناك من خيار أمام غالبية المزارعين سوى التعويل على الأمطار. ولولا هطول كميات في بداية شهر أبريل/ نيسان لهلكت السنابل المائلة إلى الاصفرار بسبب انحباس الأمطار لعدة أسابيع متتالية.
ويقول السعيدي "نحن الآن من سيء إلى أسوء. إذا لم ينجح الموسم الفلاحي سأضطر للعمل في القطاع الخاص مرة أخرى".
ومثل السعيدي يعاني حوالي 500 ألف فلاح منتج للخضروات والغلال والحبوب، وفق اتحاد الفلاحة، من صعوبات بسبب عدم توفر المياه بالكميات الكافية ما ينبئ بتراجع كبير للإنتاج الزراعي. كما يواجه مربو المواشي شحا في المياه والأعلاف ما يهدد بنقص في إنتاج اللحوم التي تشهد ارتفاعا كبيرا في أسعارها.
والأمر الأكثر خطورة أن اتحاد الفلاحة حذر بالفعل من تراجع حجم محاصيل الحبوب إلى نحو 2 مليون قنطار العام الجاري ما يعني هبوطا في الإنتاج إلى أقل من الثلث مقارنة بإنتاج العام الماضي البالغ 7,5 مليون قنطار. علما أن تونس تستورد حوالي 70 بالمئة من حاجياتها وهو ما يطرح إشكالا كبيرا في ظل ارتفاع الأسعار العالمية للحبوب.
تسبب انحباس الأمطار لفترات طويلة وجفاف مستمر منذ ثلاث سنوات في تراجع غير مسبوق لمخزون المياه في السدود في البلاد إلى ما دون 30 بالمئة حتى شهر مارس/ آذار. ومثلا تقلص المخزون في أكبر سد في البلاد، سد سيدي سالم، المزود الرئيسي في مناطق الشمال، إلى مستوى 17 بالمئة فقط من طاقة استيعابه.
منحت أمطار عارضة في بداية شهر أبريل/ نيسان أملا خادعا للمزارعين ولكن وفق الخبراء تحتاج تونس عمليا إلى أمطار بحجم الفيضانات لاستعادة المعدلات العادية في سدودها وتلبية حاجياتها للاستهلاك والقطاع الزراعي، وبشكل خاص القطاع السياحي في ذروة نشاطه بالصيف.
مخاطر الآبار العشوائية
وعلى عكس علي السعيدي، تنفس المزارع كمال الشابو البالغ من العمر 60 عاما وهو عامل زراعة منذ كان يافعا، الصعداء بتجاوز الظرف الصعب للموسم الفلاحي وبداية حصاد الخضروات الورقية ومنتجات اللفت والجزر على أرض تبلغ مساحتها نحو 15 هكتارا ويعمل بها حوالي 40 عامل من بينهم 15 امرأة.
ويقول كمال الشابو لـ DW عربية وهو بصدد قطف أوراق البقدنوس "كنا في وضع سيء، ولكن لا يتوجب أن نيأس من رحمة الله. نستخدم بئرا والوضع جيد".
ويتابع المزارع في حديثه "لا يمكن مواجهة ارتفاع الأسعار إلا بوفرة الإنتاج. الوضع كان أفضل في سبعينات القرن الماضي. اليوم هناك زحف عمراني ابتلع أجزاء كبيرة من المساحات الزراعية. أين سنزرع الخضروات. هنا برج الطويل ما يزال يقاوم. أين الدولة وأين التخطيط؟".
مع أزمتي الزحف العمراني والتلوث قررت الحكومة منع الفلاحين من الزراعة في المناطق المحاذية للسدود للحد من استنزاف المياه. لكن لمجابهة ندرة المياه وجد الآلاف في مناطق الجنوب التونسي القاحلة ضالتهم في استخدام آبار عشوائية.
ويشير الخبير في التنمية والموارد المائية حسين الرحيلي لخطر تفشي تلك الآبار ولا سيما الآبار العميقة، ما تسبب حسب رأيه في اجهاد كبير للموائد المائية حيث يتم استخراج ما يناهز 580 مليون متر مكب سنويا أي ما يعادل تقريبا 20 بالمئة من الموارد الجوفية لتونس.
وفق الخبير يبلغ عدد هذه الآبار أكثر من 21 ألف أكثر من نصفها حفر بعد ثورة 14 يناير 2011 بسبب تراجع سلطة الدولة والأجهزة الرقابية وانتشار حالة من الانفلات الأمني في الأشهر الأولى بعد الثورة. وتنتشر تلك الآبار بشكل أكبر في ولايتي قبلي وسيدي بوزيد.
وحول أسباب هذه المعضلة يشير الخبير إلى بطء الإجراءات الإدارية في الرد على مطالب الفلاحين بشأن حفر الآبار وتقادم القوانين الرادعة التي تعود الى عام 1975 والتي تفرض عقوبة لا تتناسب مع واقع اليوم (1000 دينار خطية مالية لجريمة حفر بئر عشوائي).
غموض يحيط بالخزان المشترك مع ليبيا والجزائر
وتلوح على المدى المتوسط مشكلة أكثر خطورة فالمخزون الاستراتيجي من الموارد المائية يشهد تناقصا في الخزان المائي المشترك بالمناطق الحدودية الصحراوية والتي تتقاسمها تونس مع جارتيها الجزائر وليبيا ودولتي التشاد والنيجر.
يقدر حجم المياه المخزنة في طبقة أحفورية غير متجددة، وفق دراسة لمركز الساحل والصحراء تعود الى عام 2020، بما بين 40 ألف مليار متر مكعب و60 الف مليار متر مكعب.
ويوضح الخبير حسين الرحيلي لـDW عربية بأنه "لا توجد اتفاقيات منظمة لاستغلال هذه الموارد الواقعة على عمق حوالي 2500 متر، وعمليا فإن الدول الأكثر امتلاكا للإمكانيات هي القادرة على استغلال أكبر بتلك الموارد بكميات ضخمة. تتصدر الجزائر في هذا المجال حيث يمكنها الاعتماد على الآلات والتجهيزات التي توفرها شركاتها البترولية".
بحسب المعلومات التي قدمها الرحيلي فقد بنى نظام معمر القذافي في ليبيا النهر الصناعي العظيم معتمدا على مياه الخزان المائي المشترك فيما استخدمت الجزائر هذه المياه في تنمية مساحات زراعية مخصصة لإنتاج الخضراوات بمنطقة وادي سوف.
ويقول الرحيلي "نأمل في الإبقاء على هذه الموارد إلى وقت الحاجة القصوى. ولكن في نفس الوقت فإن استغلالها مستقبلا سيتطلب امكانيات مكلفة جدا بالنسبة لتونس".
وليس واضحا بعد ما إذا كانت تخطط لاستغلال تلك المياه الجوفية العميقة حيث لا تتوفر معلومات رسمية بشأنها بسبب أنها تتواجد في منطقة عسكرية.
كابوس الستينات
وفي كل الأحوال يحذر الخبير الاقتصادي الصغير الصالحي في حديثه مع DW عربية من عواقب مكلفة إذا ما استمرت الأزمة المائية واشتدت آثار الاحتباس الحراري أكثر فأكثر، حيث لا يستبعد تكرار ما حدث في ستينات القرن الماضي عندما اشتدت موجة الجفاف ثم أعقبتها فيضانات مدمرة عام 1969 تسببت في انهيار الاقتصاد وموجة نزوح داخلية من المناطق الريفية المنهارة الى المدن.
ويعلق الصالحي على تلك العواقب المحتملة "تسببت الكارثة في تغير التوزع الجغرافي في البلاد والاعتماد أكثر على المساعدات الدولية والمزيد من متطلبات تزويد السوق لتلبية الاحتياجات الغذائية".
في المقابل لا يرى الصالحي جدوى وفعالية في بناء سدود جديدة لأنها ستكون مكلفة كما لن ترافقها موارد مائية واضحة ومضمونة بسبب ضعف التساقطات وطول فترات الانحباس الأمطار تحت وطأة التغيرات المناخية الحديثة.
على الرغم من تلك الحقائق المرة لا يجد المزارعون في "برج الطويل" من خيار آخر سوى الصمود ومجاراة الأزمة في انتظار انفراج ما.
ويقول علي السعيدي "المشكلة أننا فقدنا قيمة العمل. يجب ان نشمر على سواعدنا ونعمل. هذه أرضنا. كنا في الماضي نطعم روما وأوروبا".بدوره يعلق كمال شابو "لن نعطش نحن نتمسك بالأمل يجب ألا نشيع اليأس لدى الفلاحين. الفقر مكانه ليس تونس" المعروفة أيضا بـ"الخضراء".
تونس – طارق القيزاني