في مقهى يقع على مقربة من متحف الحبيب بورقيبة بمنطقة صقانس في مدينة المنستير مسقط رأس الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، جلست مع عدد من النشطاء ذوي توجهات مختلفة ليبرالية وإسلامية، لاحتساء القهوة وتبادل الآراء حول أوضاع البلد.
ومعظمهم ينتمون إلى الجيل الذي تخرج من الجامعة التونسية في ثمانينيات القرن الماضي، ويعتبرون ضمن آخر جيل طلابي يشهد الحقبة الأخيرة من حكم بورقيبة، التي شهدت اضطرابات اجتماعية وسياسية كبيرة، وكان الطلاب رافدا أساسيا فيها.
يتوقفون من حين لآخر عن النقاش ليتأملوا أمامهم متحف الحبيب بورقيبة. فرغم أن معظمهم كانوا ينتمون لفصائل طلابية معارضة لحكم بورقيبة، إلا أن نبرة الحسرة تنتابهم الآن وهم يستعيدون شريط الأحداث على امتداد عقود من المتاهات والخيبات التي عاشتها البلاد منذ فترة مرض الرئيس الراحل وشيخوخته والتي آلت في نهاية المطاف إلى سقوط البلاد في حقبة استبداد على يد خلفه زين العابدين بن علي.
تتوسط متحف بورقيبة مبان فاخرة هي عبارة عن إقامات سكنية ومحلات تجارية معظمها أغلقت أبوابها، ويشير المتحدثون إلى أن عددا من العقارات تقع تحت طائلة حجز قضائي ونزاعات قانونية بلا نهاية، على خلفية تحقيقات حول الفساد أجريت بعد الثورة سنة 2011 حول استيلاء عائلة بن علي وأصهاره (الطرابلسية كما يطلق عليهم في الشارع التونسي) على عدد منها بطرق غير مشروعة.
وبسبب شبهات الفساد والإشكالات القانونية، تحولت إقامات سياحية ومحلات تجارية فاخرة تحيط بقصر صقانس إلى مبان مهجورة يلفها الإهمال.
منذ 25 يوليو/ تموز 2021 تجتاز تونس حقبة غير مسبوقة في تاريخها الحديث، حيث يسود انقسام حاد بين مؤيدين ومعارضين لسياسة الرئيس قيس سعيّد ونهجه في الحكم، فيما تعود شخصية الحبيب بورقيبة بمناسبة أو بدونها لتطل بظلالها على التونسيين.
في مقال له بصحيفة "المغرب" التونسية المستقلة، نشر في السادس من أبريل/ نيسان بمناسبة مرور 23 عاما على وفاة الحبيب بورقيية، تساءل الكاتب الصحفي زياد كريشان: "ماذا بقي من بورقيبة؟".
ويرى كريشان بأنه بعد 36 عاما على إزاحة بورقيبة من السلطة، ورغم الجدل الذي تثيره شخصيتة وخصوصا على الجانب "الاستبدادي الأبوي" فيها، فإنه بمرور السنوات يظل هو الفاعل الثقافي والاجتماعي الأكثر في تونس اليوم. و"عندما نتحدث عن هوية تونسية فإننا بالأساس نتحدث عن الموروث البورقيبي.."، مشيرا إلى مكتسبات الدولة الحديثة وتحرر المرأة وانتشار التعليم.
"التوسّل" في روضة بورقيبة
روضة بورقيبة هي عبارة عن مقام يتألف من ضريح به قبر الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة (1903- 2000) وعدد من أفراد أسرته وضمنهم زوجته الأولى الفرنسية ماتيلدا. وشيد التابوت الرخامي الذي دفن به جثمان بورقيبة منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي، إثر تعرضه لأزمات صحية حادة.
وتقع روضة بورقيبة بجانب المقبرة الرئيسية بالمدينة، ويتألف المبنى من مقام مركزي تعلوه قبة ذهبية بها زاويتان تعلوهما قباب خضراء ومآذن مزدوجة، مفتوحة على ممر للراجلين على امتداد مائتي متر، يوصل الروضة بشارع رئيسي في المدينة.
وبعد وفاة بورقيبة، صارت الروضة التي تحمل اسمه، مزارا للسياح، ولكن أيضا للسياسيين الذين يسعون إلى إظهار ارتباطهم بسيرته السياسية، ومنهم الذين ينتمون إلى الحزب الدستوري الذي أسسه، أو رؤساء تناوبوا على الحكم في قصر قرطاج.
فبخلاف التعتيم الذي أحيطت به جنازته سنة 2000 إبان حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي الذي وضعه في إقامة إجبارية إثر إزاحته (بورقيبة) واستيلائه على الحكم سنة 1987، أُعيد الاعتبار لشخصية بورقيبة بعد ثورة 2011.
وكان منصف المرزوقي أول رئيس منتخب بعد الثورة، أكثر حذرا في تعامله مع رصيد بورقيبة التاريخي، إذ كان يعتبر أن لبورقيبة فضائل تتلخص في التعليم وتحرير المرأة والمساهمة في تحرير البلاد من الاستعمار الفرنسي.
والمرزوقي الذي ينحدر من أسرة كافحت ضد الاستعمار وتوفي والده في المنفى (بالمغرب) بسبب تأييده لخصم بورقيبة التاريخي الزعيم صالح بن يوسف (اغتيل سنة 1960 في فرانكفورت)، لم يكن يخفي انتقاداته لبعض الجوانب في نهج بورقيبة السياسي، وأبرزها رفض الأخير للديمقراطية في انتخابات 1981 وتعيينه لزيد العابدين بن علي وزيرا للداخلية ثم رئيسا للحكومة حتى استولى بعدها على السلطة وأقام حكما استبداديا دام 23 عاما حتى أطاحب به الثورة سنة 2011.
وفي سنة 2013 افتتح "متحف الحبيب بورقيبة" في جانب من قصر صقانس بمدينة المنستير، الذي كان يتخذه بورقيبة كمنتجع صيفي، كما كان يقوم فيه أحيانا بأنشطة رسمية، ويحتفل فيه سنويا بعيد ميلاد ه (3 أغسطس/ آب).
ومع وصول الباجي قايد السبسي إلى قصر قرطاج إثر انتخابات 2014، عاد زخم الاهتمام بشخصية بورقيبة. إذ اعتمد قايد السبسي - الوزير المخضرم على امتداد ثلاثة عقود في عهد بورقيبة - على تراثه الحزبي والسياسي وتوجهاته في قضايا المرأة وتحديث المجتمع، وكسب بها تأييدا واسعا في البلاد، تمكن بفضله من إقامة توزان، كما فاز حزبه "نداء تونس" في انتخابات 2014 على حزب النهضة الإسلامي، الذي فاز سنة 2011 بأول انتخابات حرة بعد الثورة. لكن الحزب الذي تشكل حول شخصية قايد السبسي وضم أجنحة متعددة كان يجمعها أساسا هدف تحجيم دور إسلاميي النهضة، سرعان ما تشتت إلى أحزاب صغيرة.
واكتسى التركيز على شخصية بورقيبة في فترة حكم الباجي قايد السبسي طابعا رمزيا أيضا، فبالإضافة إلى الحرص على زيارة المعالم التي ترمز إلى بورقيبة وخصوصا في مسقط رأسه بمدينة المنستير، أُقيم نصب تذكاري ضخم للرئيس الراحل في قلب شارع بورقيبة بالعاصمة تونس، رغم ما أثارته المبادرة من جدل، لاسيما أن الشارع يرمز أيضا إلى الثورة. كما أقيم نصب تذكاري آخر لبورقيبة في المنستير.
وذهب قايد السبسي في احتفائه بشخصية بورقيبة إلى حد التشبه به في خطبه وحتى في ملامح ظهوره الإعلامي.
وعندما تولى قيس سعيّد الرئاسة سنة 2019، ورغم أنه جاء إلى السياسة من بعيد ولم يكن له ماض حزبي، دأب بدوره على الحفاظ على زيارة ضريح بورقيبة في كل عام عندما تحل ذكرى وفاته. ورغم اختلاف سعيّد سياسيا وفكريا مع نهج الرئيس الراحل بورقيبة، إلا أن محاولاته إظهار ارتباطه بشخصية بورقيبة وتراثه السياسي، تبدو نابعة من تقاطعه معه في بعض الأبعاد، كما لا تخلو من حسابات في الصراع على السلطة.
إذ يحاول سعيّد تقديم نفسه كزعيم مؤثر مثل بورقيبة، عبر كتابته دستورا جديدا استهلم من دستور بورقيبة (1950) نظاما رئاسيا أكثر سلطوية، ويطرح نفسه كصاحب مشروع سيغيّر مسار تاريخ تونس برمته، دون طرح معالم واضحة لمشروعه، مكتفيا بشعارات عامة مثل "الشعب يريد" و"تصحيح مسار الثورة" و"القضاء على الفساد"، وحملات لاذعة ومتواصلة على النخب ومعارضيه الذين ينعتهم بـ"الخونة والفاسدين".
كما يسعى سعيّد من خلال تقرّبه من بورقيبة ورمزيته، لسحب البساط من بعض خصومه السياسيين الذين يوظفون تراث الرئيس الراحل السياسي، وخصوصا السياسية الشعبوية الأخرى عبير موسي زعيمة الحزب الدستوري الحر، التي سجلت في السنوات القليلة الأخيرة تقدما ملحوظا في استطلاعات الرأي.
ولئن كان سعيّد يدرك استمرار تأثير بورقيبة في أجيال عديدة، فإن تقربه من تراث الزعيم الراحل لا يعدو أن يكون محاولة للتوسّل به للأجيال التي ما تزال ترى في تراثه السياسي قاعدة لمواصلة بناء دولة حديثة.
لكن من حيث المضمون فإن توجهات سعيّد تختلف جوهريا عن فلسفة بورقيبة وعقيدته السياسية ذات التوجه الوطني البراغماتي المتشبع بقيم الحداثة الغربية. ففضلا عن تباين نهجه الشعبوي ذو التوجه القومي العروبي، تسير قرارات سعيّد وخصوصا منذ 25 يوليو/ تموز 2021، بعدما أقال الحكومة وحل البرلمان الشرعي وجمع السلطات التنفيذية والتشريعية بيديه، في اتجاه تفكيك آخر ما تبقى من فلسفة الدولة التي وضع بورقيبة أسسها، بهدف إقامة نظام جديد مختلف جوهريا.
في رحاب "القاعة المغربية"
يلفت نظر زائر متحف بورقيبة (قصر سقانص) بالمنستير قاعة استقبال مرصّعة بالزليج المغربي الأندلسي، وتسمى "القاعة المغربية" وتتصدرها لوحة كُتب عليها "زوّق فريق من الحرفيين المغاربة كافة مكونات القاعة على الطراز المغربي التقليدي"، وهي عبارة عن هدية من الملك الحسن الثاني للرئيس بورقيبة، تعبيرا عن الصداقة المتينة والتضامن بين الرجلين على امتداد عقود حكمهما الطويلة والمليئة بالعواصف الداخلية والخارجية.
وبسبب نزعة بورقيبة الاستقلالية ورفضه للهيمنة ونديته في مواجهة زعماء عرب مثل الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر أو ملوك السعودية والرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين والعقيد الليبي الراحل معمر القذافي، تعرضت علاقات تونس وأوضاعها الداخلية لعواصف.
فرغم الرصيد التاريخي المشترك مع الجارتين الجزائر وليبيا، شهدت العلاقات التونسية الجزائرية في بدايات الاستقلال أزمة بسبب ترسيم الحدود، ولم تُطفأ نيرانها إلا بتنازل الجانب التونسي، كما يؤكد ذلك السياسي التونسي (وزير الدفاع الأسبق والزعيم التاريخي لحركة الديمقراطيين الاشتراكيين المعارضة) أحمد المستيري في مذكراته "شهادة للتاريخ". كما تسبب تأييد بورقيبة القوي لاستقلال موريتانيا في أزمة مع المغرب.
وشهدت علاقات تونس المغاربية في سبعينيات القرن الماضي تأرجحا في محاولات وحدة اندماجية فاشلة مع الجزائر (1973) وليبيا (1974). وعندما نأت تونس بنفسها عن الجناحين الشرقي والغربي، تعرضت لمحاولات تدخل غير مسبوقة في شؤونها الداخلية، وصلت في سنة 1980 إلى محاولة قلب نظام الحكم فيما يعرف بأحداث قفصة (جنوب غرب تونس)، بتدبير ليبي ودعم جزائري. وكان المغرب في هذه المحطة الداعم العسكري الأساسي لتونس.
وبعد أربعة عقود تجتاز علاقات تونس المغاربية في ظل حكم الرئيس سعيّد، اضطرابات ملحوظة. فبينما تشهد شبه قطيعة مع المغرب، يسير التقارب مع الجزائر إلى حافة "التبعية للشقيقة الكبرى" كما يعبر عن ذلك ساسة وإعلاميون بارزون في تونس.
أما العلاقة مع ليبيا فبدورها لا تمر بأحسن أحوالها، وزادت طينها بلة تصريحاتٌ للرئيس سعيّد مؤخرا أبدى من خلالها انتقاداته لمخرجات قرار محكمة العدل الدولية صدر سنة 1982بشأن نزاع منسي حول حقول نفط بجرف قاري على الحدود البحرية بين البلدين، اندلع إثر تراجع بورقيبة عن "معاهدة الوحدة" التي وقعت في جربة 1974.
تونس أمام مفترق طرق
ومنذ تولي سعيّد الرئاسة تقف تونس أما مفترق طرق في سياستها الخارجية بين الحفاظ على تقاليدها في نهج سياسة متوازنة في علاقاتها المغاربية، وخصوصا بين الجارتين الكبيرتين الجزائر والمغرب ونزاع الصحراء بالخصوص، وبين توجه جديد تميل إليه سياسة الرئيس سعيّد نحو تغليب التقارب مع الجزائر، إذ كانت حادثة استقباله لزعيم جبهة البوليساريو ابراهيم غالي في تونس خلال مؤتمر أفريقي ياباني، مؤشرا واضحا في هذا الاتجاه.
ويبدو أن توجهات الرئيس سعيّد لتغيير عقيدة "التوازن والحياد الإيجابي" التي كانت تسير عليها الديبلوماسية التونسية منذ عهد بوقيبة، لا تقتصر على العلاقات المغاربية، بل تمتد إلى سياقات إقليمية أوسع وتشمل النطاق الدولي.
وفي ملف الصراع الإسرائيلي الفلسطيني سارت الديبلوماسية التونسية في العقود الماضية ضمن ما يعرف باتجاه "الدول العربية المعتدلة" التي تركز على الخيار التفاوضي مع إسرائيل، إذ كان بورقيبة من أوائل الزعماء العرب الداعين للتفاوض مع إسرائيل على أساس قرار التقسيم الدولي رقم181 (الصادر سنة 1947)، وإثر توقيع اتفاق أوسلو (1992) تبادلت تونس وإسرائيل فتح مكاتب اتصال.
بينما ارتكز خطاب سعيّد على مناهضة تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وبدأ حملته الانتخابية سنة 2019 بمقولته الشهيرة "التطبيع مع إسرائيل خيانة عظمى".
وفي ظل الضغوط الغربية والدولية التي يتعرض لها في قضايا حقوق الانسان والديمقراطية والهجرة والاصلاحات الاقتصادية والديون، لا يتوانى الرئيس سعيّد عن التلويح بتغيير تحالفات تونس التاريخية مع أوروبا والغرب. وكان لافتا أن سعيّد أعلن في خطابه بمناسبة ذكرى وفاة بورقيبة، رفضه "إملاءات صندوق النقد الدولي"، محذرا من أنه لن يجازف بتهديد السلم الأهلي في البلاد.
ويرى مراقبون بأن المحادثات التي جرت الأسبوع الماضي بين وزيري الخارجية الروسي سيرغي لافروف والتونسي نبيل عمار، بتزامن مع إعلان سعيّد عن تعيين سفير جديد بدمشق بعد عشر سنوات من القطيعة، ووسط تسريبات باحتمال قيامه بزيارة إلى موسكو، كلها مؤشرات تدل على تململ في سياسة تونس الخارجية.
وثمة قراءات متباينة لهذه الخطوات: بين من يرى فيها إرهاصات بتغيير محتمل في بوصلة سياسة تونس الخارجية في ضوء المتغيرات العالمية المرتبطة بحرب أوكرانيا وتنامي النفوذ الصيني وتزايد الدعوات لإقامة نظام عالمي متعدد الأقطاب.
وهو اتجاه يجد صداه إقليميا من ناحية بالخطوات التي تُقدم عليها دول عربية ذات ثقل إقليمي مثل السعودية التي ظلت منذ تأسيسها تعتمد على تحالفها مع الولايات المتحدة وهاهي اليوم تتقارب مع الخصوم الإيرانيين والروس، وثمة عامل يتصل بتوجه سعيّد نحو ما يطلق عليه "المحور الجزائري الإيراني" المدعوم من روسيا والصين.
أما القراءة الثانية للإشارات الصادرة عن الرئيس سعيّد في الآونة الأخيرة، فتذهب للاعتقاد بأنها مجرد رسائل تلويح للعواصم الغربية لتخفيف الضغوط عليه فيما يتعلق بملفات حقوق الانسان والديمقراطية والهجرة ورفع الشروط المطروحة في أجندة المفاوضات مع صندوق النقد الدولي.
وأي تغيير جوهري في سياسة تونس وتحالفاتها قد يتسبب في تداعيات كبيرة على البلاد، إذ يعتمد اقتصاد تونس على أوروبا بنسبة 70 في المائة، وترتبط أمنيا وعسكريا باتفاقيات مع دول أوروبية (خصوصا فرنسا وإيطاليا) والولايات المتحدة، كما تعتبر تونس حليفا استراتيجيا من خارج حلف الناتو.
قارب الهروب ..الهجرة
على الشاطئ الذي يصل قصر سقانص بمياه البحر الأبيض، يوجد قارب شراعي كتبت عليه رسالة "تخليد للذاكرة الوطنية" وتكريم لروح بوقيبة، من طرف جمعية الدراسات البوقيبية التي قدمت قاربا يحاكي القارب الذي استخدمه الزعيم التونسي في 26 مارس/ آذار 1945 للتسلل من جزيرة قرقنة (شرق تونس) إلى بلدة زوارة الليبية قرب العاصمة طرابلس هربا من الاستعمار الفرنسي، بهدف السفر بعد ذلك إلى القاهرة وعواصم أخرى للتعريف بقضية استقلال تونس.
ويلفت نظر الزائر أنه على بعد عشرات الأمتار ترسو قوارب صيد تقليدية وقد أسندت على أرصفة حجرية بشكل عشوائي. وتلوح في الأفق قوارب أخرى لصيادين في مياه البحر الأبيض المتوسط الهادئة.
بعد حوالي ثمانين عاما على رحلة بورقيبة من أجل الدفاع عن قضية استقلال تونس، وأربعة عقود من وفاته، ها هي شواطئ البحر الأبيض المتوسط تلفظ يوميا جثث عشرات المهاجرين الذين يجازفون بحياتهم من أجل العبور إلى سواحل إيطاليا التي لا تبعد سوى بضع عشرات الكيلومترات.
فقد تحولت تونس في السنتين الأخيرتين إلى بلد العبور الأول إلى إيطاليا، وخلال الأشهر الثلاثة الأولى أوقف الحرس الوطني التونسي زهاء 15 ألف مهاجر غير نظامي في عمليات اعتراض بالبحر.
ورغم أن معظمهم ينحدرون من دول الساحل وجنوب الصحراء، إلا أن تونس سجلت في العام الماضي أعلى نسبة هجرة غير نظامية نحو السواحل الإيطالية، إذ هاجر أكثر من ثلاثين ألفا، في أكبر عملية هروب جماعي من البلد الذي بات يضيق فيه العيش بالنسبة لفئات واسعة من الشباب والنساء والكفاءات.
ولم تستثن موجة الهجرة الجماعية القصّر والفئات الأكبر سنا، وهو وضع يؤكد الخبراء في تونس بأنه "مقياس للوضع الاقتصادي والاجتماعي وانسداد الأفق". فيما يرى مسؤولون أوروبيون بأنه ناقوس خطر ينذر بانهيار قريب لاقتصاد البلاد، قد يتسبب في هجرة مئات الآلاف من الأشخاص نحو أوروبا.
في المقابل يواصل سعيّد ربّان سفينة تونس قيادتها منفردا وسط أزمات داخلية مركّبة وتقلبات واضطرابات في الأوضاع الإقليمية والدولية، في ظل غموض في الرؤية والبوصلة.
منصف السليمي