تشريعات للحد من زواج القاصرين حتمية فرضها اللاجئون
١٣ نوفمبر ٢٠١٦حين أصدرت منظمة "أنقذوا الأطفال" في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي تقريراً ضمّ أرقاما صادمة حول ارتفاع نسب الزواج بين الفتيات الصغيرات، جاءت ألمانيا ضمن قائمة الدول الـ144 التي تشهد تلك الظاهرة، وتمّ وصفها حينها بأن زواج الأطفال بها "شائع نسبياً". وإذا كان الأمر قد أثار استغراب البعض، يجب القول بأن أسباب هذا التصنيف تعود بالأساس إلى موجة اللاجئين التي شهدتها البلاد في السنوات الأخيرة، والتي بلغت ذروتها عام 2015.
فحسب أرقام مكاتب الشؤون الاجتماعية، يفوق عدد حالات الزواج بين القاصرين اللاجئين 1500 حالة، 600 منها لحالات أقل من 16 عاماً، تشمل بشكل أساسي الفتيات. غير أن منظمات المجتمع المدني ترجح عدداً أكبر بكثير، في وقت يتجنب فيه مكتب الهجرة واللجوء الكشف عن أرقام رسمية.
ولم يكن هذا الموضوع لينال الاهتمام الإعلامي والسياسي لولا قضية الفتاة السورية الكردية، فبعد أن أبطل مكتب رعاية الأطفال والقاصرين (Jugenamt) زواجها من ابن عمها لأنها لم تصل بعد السن القانونية للزواج، أصدرت المحكمة العليا ببامبيرغ حكماً يقضي بالعكس.
تبلغ "أميرة"، كما تمّ تقديمها إعلامياً، من العمر 15 عاماً، فيما أشارت تقارير أخرى إلى أنها لم تتجاوز الرابعة عشر، وقد تزوجت ابن عمّها أمير (اسم مستعار) في فبراير/ شباط من عام 2015، وهو يبلغ من العمر 21 عاماً. لذلك، ارتأى مكتب رعاية الأطفال والقاصرين التابع للمدينة، و"لمصلحة أميرة"، إبطال هذا الزواج وتكفّل بشؤونها. وبعد مرور القضية على محكمة الأسرة ببامبيرغ، استقرّت لدى المحكمة العليا، التي اعتبرت أن الزواج الشرعي الذي عقد في سوريا "لا شائبة تشوبه" وأن هناك "علاقة وطيدة" بين الزوجين، بدليل أنهما قطعا رحلة الهروب من سوريا عبر تركيا واليونان وطريق البلقان سوية، وهو ما "ينفي" أيّ مؤشر للزواج القسري.
واستناداً إلى قرار المحكمة، لا يمكن إدراج أميرة ضمن 700 ألف فتاة في العالم ممن أجبرن في عام 2015 على الزواج مبكراً، حسب إحصائيات منظمة "أنقذوا الأطفال" في التقرير المذكور أعلاه. لكن رغم ذلك، سادت الخشية الرأي العام الألماني من تحوّل هذا القرار إلى "قياس" للنظر في باقي الحالات الأخرى المسجلة في دوائر اللجوء، ومقدمة لشرعنة زواج القاصرات في ألمانيا.
يذكر أن السن القانون للزواج في ألمانيا هو 18 عاماً، وفي حالات استثنائية 16 عاماً شريطة الحصول على إذن من قبل محكمة الأسرة المختصة.
تحرك سياسي لتشريعات جديدة
وأمام تزايد حالات زواج القاصرين، كان من الضروري أن ينتقل ملف كهذا إلى طاولة السياسيين، ما دفع وزير العدل هايكو ماس إلى إنشاء لجنة عمل تضم ممثلين عن أحزاب الائتلاف الحاكم (الاتحاد المسيحي الديمقراطي والاتحاد المسيحي الاجتماعي والاشتراكي الديمقراطي)، بالإضافة إلى ممثلين عن الولايات ورجالات قانون ودين، للتباحث حول مسودة قانون تحدد آلية التعامل مع زواج القاصرين وخصوصاً آليات الاعتراف بالزواج الأجنبي، أساسه أن "الزواج بعمر أقل من 18 عاماً أمر مرفوض قطعاً"، كما صرح الوزير ماس لصحيفة "راينشه بوست" الألمانية قبل أسبوع، مشدداً على مسؤولية الدولة في حماية الأطفال.
الحاجة إلى تشريعات جديدة تعود بالأساس إلى الصيغة "الفضفاضة" للقوانين المعتمدة للاعتراف بعقود الزواج المبرمة في الخارج. فالعقود المسجلة في المؤسسات المختصة، على سبيل المثال في سوريا وأفغانستان والعراق، "معترف" بها مبدئياً طالما لا تتعارض مع مبدأ "النظام العام/ Ordre Public"، كما يرد ذلك في بنود القانون المدني الألماني BGB، الأمر الذي يشكل الأرضية القانونية للاعتراف بعقود الزواج المبرمة في الخارج..
الإشكالية المطروحة هنا أن مقتضيات "النظام العام" لا تحدد عمر الزوج أو الزوجة على الأقل استناداً إلى أحكام المحكمة الدستورية العليا، مما أدى إلى أخذ سن 16 كعرف قانوني متداول. ولهذا السبب يطالب العديد من وزراء عدل الولايات (بافاريا وشمال الراين فستفاليا كمثال) حاليا اعتماد سن 18 عاماً كحد أدنى للاعتراف بهكذا زيجات، ليتناسب ذلك مع القانون الأصلي للبلاد.
وفي الوقت الذي تبنّت فيه الدنمارك، التي استقبلت بدورها عدداً كبيراً من اللاجئين، قانوناً يحظر الاعتراف بعقود الزواج الأجنبية لمن هم دون سن الثامنة عشر بدون استثناء، تسود ألمانيا حالة من التجاذبات الحزبية بشأن إمكانية تحديد الحد العمري الأدنى. فداخل لجنة وزير العدل، تدعو أطراف من حزب ميركل إلى رفع السقف إلى 18 عاماً، فيما أبدت مفوضة الحكومة الألمانية لشؤون الاندماج، آيدان أوزوغوز (من الحزب الاشتراكي الديمقراطي الشريك في الائتلاف الحاكم)، رفضها لحظر عام وشامل على زواج القاصرين، محذرة من تداعياته على النساء الشابات، خصوصاً وأن ذلك سيحرمهن من حقوقهن في النفقة ويحرم أطفالهن من الإرث، كما سيجعل أمر عودتهن إلى بلدانهن مستحيلاً، حسب أوزوغوز.
منظمات حقوقية ترفض أي استثناءات
طرح إدراج أي استثناءات في مسودة المشروع المنتظرة أمر رفضته منظمات حقوقية تعنى بحقوق النساء، وعلى رأسها منظمة "تير دي فام"، التي كانت من أكثر الجهات الناشطة في هذه القضية. فبالنسبة لهذه المنظمة "فتح المجال لاستثناءات ممكنة سيقدم ذرائع تتيح الزواج المبكر"، حسب ما تقول المتحدثة باسم المنظمة في فرع العاصمة برلين، مونيكا ميشيل، في حوار مع DW عربية.
وتؤكد ميشيل أن زواج القاصرين ليس ظاهرة جديدة في ألمانيا، مستندة في ذلك على تقارير تفيد أن عام 2011 وحده شهد 3500 حالة لزواج قاصرات، الثلث منهن بالإكراه. لكن اليوم ومع قدوم اللاجئين أصبحت الأعداد تتزايد، لتشدد المتحدثة على موقف المنظمة الرافض لزواج القاصرين لكونهم "لا يمتلكون مستوى كاف من النضج ويتمتعون بجميع الحقوق لكي يتخذوا قرارات مصيرية كالزواج. أضف إلى ذلك النتائج الوخيمة للزواج المبكر بما في ذلك الأخطار الصحية التي يمكن أن تتعرض لها الفتاة عند الحمل في سن مبكر، إلى جانب الانقطاع مبكراً عن الدراسة والاعتماد كلياً على الزوج، وما يعنيه ذلك من تبعية اقتصادية أيضاً". لهذا، ترى الناطقة باسم المنظمة أن "قرار الزواج لا يجب اتخاذه قبل سن الزواج"، وهذا يعني في الوقت ذاته الانتظار إلى أن تبلغ الفتاة السن القانونية، حتى تمنح أحقية النظر فيما إذا كانت تريد مواصلة علاقة الزواج أم لا، وحينها عليها الذهاب إلى المؤسسات المختصة لعقد زواج مدني في إطار القوانين المتاحة.
لكن الإشكالية الكبرى، حسب ميشيل، يطرحها أطفال الأمهات القاصرات، وهنا "يجب دراسة كل حالة على حدة وبشكل دقيق، خاصة حين يتعلق الأمر بإيجاد الوكيل المؤهل لرعاية الطفل".
زواج القاصرين .. من ويلات الحرب
هذا ولا يمكن النظر إلى الإشكالية المطروحة في ألمانيا بمعزل عمّا يجري في سوريا والعراق وأفغانستان. ففي سوريا، مثلاً، ارتفعت نسب زواج القاصرين إلى أكثر من ثلاثة أضعاف، وفق ما جاء في إحصائيات منظمة رعاية الطفولة التابعة للأمم المتحدة، التي أكدت أن حالات زواج القاصرين بلغت في عام 2015 نحو 51 في المائة، مقارنة بـ13 في المائة عام 2011.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن القانون المدني السوري يمنع الزواج في عمر أقل من 18 عاما، ورغم ذلك بدأت هكذا عقود تسجل في الدوائر المختصة خاصة التي تسيطر عليها المعارضة.
من هذا المنظور تدعو أصوات إلى التعامل مع الموضوع بـ"حكمة أكبر"، كما يقول الخبير في القضايا الإسلامية ماتياس روه المشارك في اللجنة المختصة، داعيا إلى ترك المجال لإدراج إمكانية الاعتراف بحالات قصوى تكون بين سن 16 و18 عاما.
من جهتها، تقرّ مونيكا ميشيل من منظمة "تير دي فام" بأن الزواج القسري ما هو إلى نتيجة طبيعية للأوضاع المزرية التي تواجهها العائلات التي أجبرت على النزوح إلى مخيمات اللاجئين وباتت تكابد الفقر والجوع، ما يدفعها إلى تزويج البنات قصد حمايتهن من انتهاكات وشيكة ولإيجاد معيل لهن. ومع ذلك "لن تدفعنا هذه العوامل إلى الاعتراف بهكذا زواج"، حسب ما تؤكد ميشيل.
هذا الطرح تتبناه أيضاً زميلتها في المنظمة الدكتورة عبير الحاج مواس، والتي تحذر من أن الفتيات، وعبر تزويجهن في سن مبكرة، أصبحن هدف استغلال مزدوج. وأثناء سردها لجانب من المعاناة التي تعيشها المرأة السورية خلال صراع دام أكثر من خمسة أعوام، تقول المتخصصة في علم الاجتماع إنه يجب على ألمانيا أن لا تساهم في تعميق أزمات الفتيات الصغيرات عبر القبول بتزويجهن والسماح لأزواجهن الذين ربما لم يرونهن في حياتهن الا من خلال وسائل الاتصال الجماعي ( واتس أب، وفيس بوك) للالتحاق بهن في إطار عملية لمّ الشمل. وتلحّ الدكتورة عبير على مسؤولية المشرع الألماني لصدّ أي تلاعب بالقانون تكون الفتاة في نهاية المطاف ضحيته الأولى، مضيفة أنه "يجب اقتلاع الأسباب من الجذور ومعالجتها".
القانون الوضعي قبل الشرعي
ومن بين القضايا المطروحة على طاولة المناقشات أمام لجنة وزير العدل الألماني إعادة إدراج قانون تمّ الغاؤه في عام 2009 كان يحظر الزواج الديني قبل المدني. وكشفت تصريحات المسؤولين عن توجهات تقضي بفرض غرامات مالية بحق أشخاص اعتمدوا المساجد أو الكنائس قصد الزواج قبل التوجه إلى مؤسسات الدولة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن القانون الكنسي في ألمانيا يسمح بالزواج اعتباراً من سن 14 عاماً، إلا أنه قانون غيّر مفعل عمليا وإن كان قائماً، عكس ما يحدث في المساجد، التي يتوجه إليها المسلمون عادة لعقد قرانهم حسب قواعد الشريعة لإسلامية، كما أكد إمام مسجد دار السلام في برلين، الإمام محمد طه صبري، الذي أكد ارتفاع أعداد الحالات التي باتت تقصده الآن إلى مسجده قصد زويج البنات القاصرات، والسبب حسب رأيه يتعلق بارتفاع أعداد اللاجئين.
رفع سن الزواج دون استثناء إلى سن 18 عاماً أمر لا يعارضه مبدئياً إمام مسجد دار السلام في برلين كما عبّر عن ذلك في حوار لـDW عربية، بل ويقول إنه يحث الجالية المسلمة على احترام قانون البلد الذي يعيشون فيه. وهو يتوقع حاجة هذه الجالية المسلمة إلى "مرحلة تكيّف" للالتزام بقوانين تختلف عمّا عهدوه في بلدانهم الأصلية، لأن الجالية المسلمة في نهاية المطاف "برهنت على التزامها بقوانين الدولة التي تعيش فيها، وهذا هو المطلوب أيضاً".
في ذات الوقت، طالب الإمام المشرع الألماني بإيجاد قانون يراعي الرغبات الجنسية لشباب لا يريدون ذلك إلا في "إطار شرعي"، وهو ما يبدو أمراً يتناقض مع الأولويات التي يعيرها القانون الوضعي في هذه الحالة. إلى ذلك، يبقى السؤال حول مدى استعداد باقي رجال الدين داخل ألمانيا إلى الامتثال إلى أحكام الدولة الألمانية في هذا الشأن.