هل يستغل لبنان نفطه على الطريقة السعودية أم النرويجية؟
١ مارس ٢٠٢٠في زمن تلاحق فيه أزمات كورونا والحروب التجارية والعقوبات الاقتصادية والشعبوية والتطرف اقتصاديات الدول بلا رحمة، لا يخلو الأمر من بصيص أمل في دولة هنا وأخرى هناك. ويتمثل بصيص أمل في بدء لبنان عن طريق شركة توتال الفرنسية في 27 فبراير/ شباط الماضي بحفر أول بئر نفطية في مياهه الإقليمية شمال العاصمة بيروت.
يأتي هذا البدء بعد جدال ساخن تخلله الكثير من العقم بين رؤوس السلطة السياسية في البلاد على مدى عشر سنوات. على ضوء ذلك لا عجب أن يصف الرئيس اللبناني ميشال عون بدء الحفر بأنه خطوة "تاريخية" ستشكل "حجر الأساس للصعود من الهاوية" التي يقف البلد على حافتها بسبب أزمة اقتصادية ومالية شبه خانقة وغير مسبوقة زادت من حدتها الاحتجاجات الشعبية المستمرة منذ أشهر ضد فساد النخب الطائفية الحاكمة.
تفاؤل يعكس حاجة ماسة
يأتي التفاؤل اللبناني على لسان أكثر من مسؤول وخبير بدخول لبنان عصر التنقيب عن النفط واستخراجه لاحقا على لسان رئيس الجمهورية ومسؤولين آخرين على ضوء اكتشافات ضخمة من الغاز والنفط شرق المتوسط ومقابل الشواطئ اللبنانية أيضا. ويقدر حجم الاحتياطات الكامنة هناك في أسوأ الأحوال بنحو 20 تريليون متر مكعب من الغاز وأكثر من 550 مليون برميل من النفط. وإذا ما بدأ الاستخراج والبيع فإن الأسعار الحالية تضمن للبنان عوائد مالية تزيد على 5 مليارات دولار سنويا على مدى عشرين سنة يتوقع يمكن أن تبدأ بحلول عام 2023.
يحتاج لبنان المثقل بديون تزيد على 86 مليار دولار، أي ما يزيد على 150 بالمائة من ناتجه المحلي الإجمالي أكثر من أي وقت مضى إلى مصدر دخل جديد كالنفط والغاز. ومن أبرز أسباب ذلك استنزاف قدرته على مزيد من الاقتراض وتراجع تحويلات المغتربين والمساعدات الخارجية بشكل مخيف. وقد أدى هذا التراجع إلى توجيه ضربة قوية لاقتصاده الذي يعتمد بشكل كبير على ريع الخدمات المصرفية والمالية في دعم تمويل المستوردات التي تعادل قيمتها السنوية بين 18 إلى 20 مليار دولار سنويا، أي ما يعادل نحو 7 أمثال قيمة الصادرات.
ومن هنا فإن استخراج النفط والغاز يعني تقليص فاتورة المستوردات من خلال إحلال مصادر الطاقة المحلية مكان المتسوردة بقيمة لا تقل عن 3 مليارات دولار سنويا. كما يعني إمكانية تحقيق عوائد مالية لسداد قسم هام من أقساط الدين العام وتمويل خدمات عامة كالتعليم والصحة شريطة الحد من الفساد المستشري في البلاد. هذا ويتطلب الوفاء بأقساط الدين لوحده من 5 إلى 6 مليارات دولار سنويا.
النفط لا يحل كل المشاكل
غير أنه رغم من الأهمية الكبيرة للعوائد النفطية المتوقعة فإنها لن تكون قادرة على حل مشاكل لبنان التي تعكس اقتصادا ضعيف الإنتاج والتنوع أصبح معتمدا على ريع الخدمات المصرفية والمالية. وتكمن المشكلة في أن هذا الريع أضحى في مهب الريح بسبب تراجع الودائع وتوقف القروض وتواصل الاحتجاجات. ومن هنا تأتي مراهنة الكثيرين في لبنان حاليا على بديل آخر ألا وهو ريع النفط والغاز حتى قبل أن يبدأ الإنتاج فعليا.
ويكمن الخوف هنا من أن هذه المراهنة تعني تفويت الفرضة التي تقتضيها الأزمة الحالية لإعادة هيكلة الاقتصاد اللبناني من خلال إصلاحات عميقة ومؤلمة تفسح المجال للنهوض بالصناعة والزراعة وقطاعات الإنتاج التقليدية الأخرى. كما يكمن في تكرار تجارب خليجية كتجربة السعودية التي استفاقت بعد عقود طويلة من عصر النفط على ضرورة تنويع مصادر الدخل كونها الضامن الوحيد لتنمية مستدامة تعتمد على القوى الكامنة في الكفاءات الوطنية أكثر من اعتمادها على استخراج مصادر الطاقة الاحفورية ذات القيمة المضافة المتدنية. ويدعم هذا الرأي أن أموال النفط تفسح المجال أكثر للفساد والمحاصصة الطائفية التي تتحكم باقتصاد لبنان.
أين زراعات لبنان وصناعاته؟
كان لبنان حتى ثمانينات القرن الماضي من البلدان المزدهرة بالزراعة والصناعة التحويلية الخفيفة. وكانت صادراته إلى من التفاح والحمضيات والأغذية المصنعة والألبسة على سبيل المثال تصل إلى كل أنحاء المعمورة. أما اليوم فقد تحول هذا البلد الذي يتمتع بالمياه والأراضي الخصبة وبنخبة من أفضل المهندسين والكفاءات والأطباء في منطقة الشرق الأوسط إلى مستورد لكل شيء تقريبا لدرجة أن قيمة فاتورة مستورداته من الأغذية تصل لوحدها إلى نحو 3 مليارات دولار سنويا.
ومن هنا فإن أية محاولات لإخراج الاقتصاد اللبناني من أزمته لن تنجح ما لم تتم إعادة هيكلته وتحويله إلى اقتصاد يعتمد على الإنتاج المحلي والخدمات بشكل متوازن وأقل تبعية للخارج. وينبغي لذلك أن أن يسير جنبا إلى جنب مع إعادة جدولة ديونه وضبط موازنته من خلال تقويض شبكات الفساد المستشري في إدارات الدولة والقطاع العام. الجدير ذكره أن الحكومة الحالية برئاسة حسان دياب لم تعلن حتى الآن عن خارطة طريق تشير إلى توجه في هذا الاتجاه.
تجرية نرويجية جديرة بالاهتمام
كما ينبغي أيضا أن يسير إلى جانب استثمار عوائد النفط والغاز المتوقعة من أجل دعم عملية النهوض بالقطاعات الإنتاجية والخدمية المحلية المستدامة وفي مقدمتها الأغذية والألبسة والصناعات التحويلية الأخرى والحرف التقليدية والتعليم. فمثل هذا الاستثمار يساعد على تحقيق اقتصاد متوازن ومزدهر يقوم على النهوض بالقطاعات التقليدية كما تظهر تجربة النرويج التي اعتمدت على عوائد النفط في تطوير زراعاتها وصناعاتها ونظمها التعليمية خلال العقود الأربعة الماضية.
وبفضل ذلك لا ينتج هذا البلد الذي يشبه لبنان في أكثر من مجال مستلزماته الأساسية من المواد الأساسية الاستهلاكية وحسب، بل يصدر سنويا من الأغذية والسلع الصناعية الخفيفة ذات القيمة المضافة العالية بضائع بقيمة أكثر من 30 مليار دولار سنويا. وبالمجمل فإن اقتصادا متنوع الدخل وحده القادر على إخراج اقتصاد لبنان من دوامة أزمة مالية مستعصية سببها الاقتراض المفرط والاستيراد المنفلت.
ابراهيم محمد