تحليل: قيس سعيّد - المنقذ..اللغز..والمحارب
٤ سبتمبر ٢٠٢٠قيس سعيّد، أستاذ القانون الدستوري الذي دخل إلى السياسة في نهاية العقد السادس من عمره، ما يزال يفاجئ المراقبين للشأن التونسي، منذ حصوله على أغلبية كاسحة في الانتخابات الرئاسية التي جرت في أكتوبر تشرين أول من العام الماضي، وصولا إلى خطابه في مراسم أداء اليمين الدستورية لحكومة هشام المشيشي في الثاني من سبتمبر أيلول 2020، خطاب وُصف في عدد كبير من وسائل الإعلام المحلية والأجنبية بـ"الصدمة"، ليس فقط لكونه يأتي في وقت تبدو فيه ملاح انفراج - ولو نسبي - في الأزمة السياسية بالبلاد، بل لمحتواه والنبرة التي تحدث بها الرئيس التونسي.
قيس سعيّد ..المنقذ
في بدايات شهر مارس آذار من عام 2011، أتيحت لي فرصة حضور اجتماع شعبي في مدينة سيدي بوزيد مهد الثورة التونسية. كانت القاعة المتواضعة التجهيزات مكتظة بالشباب، وعلى منبرها بدا قيس سعيد أستاذ القانون الدستوري بقامته الطويلة إلى جانب السياسي والوطني المخضرم مصطفى الفيلالي (توفي 2019) وعدد آخر من النشطاء الشباب في المنطقة.
لفت نظري آنذاك انصات الحضور إليه رغم أسلوبه الخطابي الرتيب، وتفاعلهم الشديد مع نبرته الثورية المتوهِّجة. ما أن انتهت كلمات الخطباء، وبينما كان شغفي بالحديث إلى الفيلالي الذي تعرفت عليه منذ تسعينيات القرن الماضي في الرباط حيث كان يتولى منصب أول أمين عام للاتحاد المغاربي، كان الشبان يسارعون الخطى ليلتفوا حول قيس سعيد، وبدَا في حديثه إليهم وكأنه يواصل خطبته حول دستور ونظام ما بعد الثورة، وهم يتابعون إنصاتهم!
أعقبت الثورةَ سنواتٌ مخضبة بالأحداث والتقلبات، انصرفت فيها النخب السياسية والحزبية التونسية إلى خوض معارك انتخابية وسياسية على أصعدة مختلفة، بينما سلك قيس سعيد طريقا آخر، قضاها بعيدا عن تونس العاصمة، مركز الحياة السياسية والاقتصادية والإعلامية، متنقلا بين المدن والمناطق النائية محاضرا ومتواصلا مع الشباب والفئات التي كانت تتسع الفجوة بينها وبين النخب والزعماء السياسيين.
سيكتشف الرأي المحلي والخارجي، بعض ملامح شخصية قيس سعيد بعد ثماني سنوات، وهو يتصدر المنافسة في الانتخابات الرئاسية، ثم يفوز فيها بأغلبية ساحقة تفوق على 72 في المائة، في مواجهة منافسه نبيل القروي زعيم حزب "قلب تونس"، الذي يعتبر نتاجا للمنظومة السياسية والإعلامية، لا بل إنه كان متهما بقضايا فساد.
وصل قيس سعيد إلى قصر الرئاسة في قرطاج اعتمادا على أصوات فئات واسعة من الشباب وشرائح اجتماعية صوتت عقابيا ضد المنظومة الحزبية بأكملها. وهو في نظر ناخبيه، كما هو حاليا، لدى فئات واسعة من التونسيين بحسب مؤشرات استطلاعات الرأي، مختلف عن باقي مكونات المشهد السياسي أحزابا وزعماء، بعذريته السياسية ويتميز بنظافة اليد والاستقامة. ولذلك فهو بالنسبة لهؤلاء بمثابة المنقذ من المنظومة السياسية والحزبية التي تدير شؤون البلاد منذ الثورة، وتلاحقها تهم الفساد والفئوية الضيقة.
ومنذ وصوله إلى قصر قرطاج لم يخف سعيّد يوما نظرته السلبية إزاء الأحزاب والبرلمان باعتباره مركز العملية السياسية في نظام سياسي شبه برلماني، وفق ما أقره دستور 2014. كما لم يخف طموحه بحل البرلمان وحتى تغيير النظام السياسي، ليس فقط ليصبح رئاسيا بل لتحويل بنية النظام السياسي والإداري المركزي الموروثة عن المستعمر الفرنسي، إلى لامركزية موسعة تعتمد على مجالس شعبية محلية، يشبهها البعض بكانتونات النظام الكونفدرالي في سويسرا، وينعتها خصومه بأنها أشبه ما تكون باللجان الشعبية التي أقامها العقيد الراحل معمر القذافي في ليبيا. وبالنسبة لسعيد فان ما يريد تحقيقه هو "ثورة جديدة في إطار الشرعية" القانونية والدستورية، والمستهدف منها هي الطبقة السياسية والمنظومة التي يجلس هو اليوم في أعلى قمة هرمها.
قيس سعيّد ..اللغز
لم تكن خطبه السياسية الغزيرة ولا أنشطته في الحياة العامة ولا مساهماته الأكاديمية، كافية للمراقبين للإلمام بملامح شخصية الرئيس التونسي وتوجهاته. ولم تسعف خرجاته الإعلامية النادرة في وسائل الإعلام العمومية ومقاطع الفيديو التي تبث على صفحات رئاسة الجمهورية في مواقع التواصل الاجتماعي، في تفكيك خطاب الرئيس سعيّد.
ومن ثم بدأ محللون يتابعون طريقة إدارته للحكم ونوعية الشخصيات التي يختارها في ديوانه أو في المناصب العامة التي يخولها له الدستور والقانون. لكن كثرة التغييرات في طاقم الرئاسة وحتى في المناصب السيادية التي يخولها له الدستور، مثل وزارات الدفاع والخارجية. وحتى رئيس الحكومة الحالي الذي اختاره الرئيس سعيّد، كاد أن يتسبب خلافه مع الرئاسة حول اختيار بعض الوزراء، في إسقاط حكومته قبل أن تولد. وكل هذه الوقائع ستكرّس الانطباع السائد عن غموض يحيط بأسلوب حكم الرئيس سعيّد.
كما أن علاقاته الخارجية، تبدو محدودة، فخلال عشرة أشهر من توليه للرئاسة لم يقم الرئيس سعيد سوى بثلاث زيارات إلى الخارج، كانت الأولى إلى مسقط للمشاركة في مراسم العزاء بوفاة السلطان قابوس، والثانية في زيارة رسمية دامت يوما واحدا إلى الجارة الكبرى الجزائر، وزيارة ثالثة إلى باريس.
وفي الوقت الذي يسعى فيه سعيّد للحفاظ على صورته لدى الرأي العام الشعبي كرجل مستقيم وزاهد في المصالح المادية ونمط حياة البذخ أو أسلوب الساسة التقليديين في البلد، ما يزال في نظر وسائل الإعلام المحلية والطبقة السياسية شخصية من الصعب التنبؤ بما يصدر عنها.
فقد فوجئ المحللون بتصريحات لا تخلو من الغموض وقابلة التأويل على أوجه مختلفة، في خرجات إعلامية عديدة ومباشرة للجمهور خلال اجتماعات رسمية أو لقاءاته مع شخصيات سياسية أو حتى أمنية أو عسكرية. إذ تحدث أحيانا عن "مؤامرات" تحاك ضده، واتهم فئات من الساسة المحليين بنهج أسلوب "الغرف المغلقة"، وهدد أحيانا بـ"كشف كل الحقائق" في الوقت المناسب، كما يقول. وأحدث تلك التصريحات المثيرة، حديثه مساء الثلاثاء الماضي خلال مراسم أداء حكومة هشام المشيشي لليمين الدستورية في القصر الرئاسي، عن "مؤامرات" و"خيانات" و"صفقات في غرف مظلمة" و"شراء ذمم" وولاء لقوى "الاستعمار والصهيونية".
وعادة ما تثير مثل هذه التصريحات سيلا من ردود الفعل في وسائل الإعلام المحلية ومواقع التواصل الاجتماعي، التي تنبري في تأويلاتها لمراميه والجهات التي يقصدها. خصوصا أن سعيد لا يضع النقاط على الحروف في خطبه.
بيد أن تصريحاته الأخيرة أثارت تساؤلات مراقبين في داخل تونس وخارجها، كونها اتّسمت بنبرة أكثر حدّة عما هو معتاد من نبرة الرئيس التونسي الصارمة أصلا، كما أنها جاءت في حفل برتوكولي الطابع أثناء أداء أعضاء الحكومة الجديدة لليمين الدستورية، وكان ينتظر أن يكون تنصيبها مؤشرا على بداية انفراج للأزمة السياسية التي تواجهها البلاد منذ الانتخابات الماضية. وفي وقت تستعد فيه تونس إلى خوض جولة جديدة من المفاوضات مع المؤسسات المالية والنقدية الدولية لمساعدتها على إخراج الاقتصاد من أسوأ أزمة يتعرض لها منذ استقلال البلاد، بسبب تراكم المشاكل في سنوات ما بعد الثورة وتداعيات جائحة كورونا.
قيس سعيّد..المحارب
من تابع جلسة منح الثقة لحكومة المشيشي في البرلمان التونسي، ليل الإثنين/الثلاثاء، لا يجد صعوبة في استنتاج على الأقل البعض ممن يمكن أن يكون قد قصدهم الرئيس سعيد باتهاماته القوية وتوعدهم بـ"كشف خياناتهم" و"مؤامراتهم" و"صفقاتهم"..فقد تحولت جلسة منح الثقة للحكومة الجديدة إلى شبه جلسة تقريع للرئيس سعيد من نواب أحزاب النهضة الإسلامي و"قلب تونس" الليبرالي، وائتلاف الكرامة" ذو التوجه الثوري الإسلامي، وحتى بعض النواب من أحزاب وسطية ليبرالية أخرى..وعلى مواقع التواصل الاجتماعي يتعرض الرئيس سعيد منذ أشهر إلى انتقادات حادة تطال أحيانا حياته الشخصية.
ولئن كانت الخلافات بين الرئيس سعيّد وزعماء عدد من الأحزاب وعلى رأسهم زعيم حزب النهضة راشد الغنوشي، الذي يرأس البرلمان، تفسّر جانبا من التشنج الذي لوحظ في خطاب الرئيس سعيد. فان إشاراته يبدو أنها تنطوي أيضا على تلميحات لرئيس الحكومة المشيشي، الذي تحدثت وسائل إعلام محلية على أنه بعد تسميته من قبل رئيس الجمهورية، يكون قد أبرم صفقة مع الإئتلاف النيابي الواسع الذي منحه الثقة في البرلمان، لتفويت الفرصة على سيناريو حل البرلمان من قبل الرئيس.
إذ توقع نبيل القروي زعيم حزب "قلب تونس" بأن تشكيلة حكومة التكنوقراط ستشهد تعديلا في المستقبل المنظور، وسيتم "إبعاد وزراء عينتهم الرئاسة" وتم فرضهم على رئيس الحكومة الذي يفترض، بحسب الدستور، أن يختار أعضاء فريقه الحكومي باستثناء وزيري الخارجية والدفاع الذين يسميهما رئيس الجمهورية، باعتباره المسؤول الأعلى عن السياستين الخارجية والدفاع.
و تؤشر الأجواء التي تم فيها تشكيل الحكومة ومنحها الثقة وصولا إلى تنصيبها، بأن الأيام المقبلة ستحمل مفاجآت في العلاقات المضطربة بين رؤساء مؤسسات الحكم الثلاث: رئاسة الجمهورية ورئاسة البرلمان ورئاسة الحكومة.
وتشهد العلاقة بين مؤسسات الحكم في تونس منذ انتخابات أكتوبر الماضي، صراعات مفتوحة. بدأت بفشل حزب النهضة الفائز الأول في الانتخابات في تشكيل الحكومة، وتواصلت بحدة عندما تحولت المبادرة دستوريا إلى رئيس الجمهورية لاختيار رئيس حكومة هو إلياس الفخفاخ، الذي جرى اختياره بعيدا عن رغبة الأحزاب السياسية الكبرى. ولم تمض خمسة أشهر حتى اضطر إلياس الفخفاخ إلى الاستقالة تحت وطأة ملتمس سحب الثقة بسبب اتهامات بالفساد، وكانت تلك بمثابة ضربة موجهة مباشرة من حزب "النهضة" للرئيس سعيّد. وأعقبتها مذكرة من عدد من الكتل النيابية أخفقت في سحب الثقة من الغنوشي كرئيس للبرلمان.
نُذر مواجهة بين الرئيس وخصومه
وبعد تشكيل حكومة المشيشي، وفيما تكبر انتظارات الشارع وفئات الشباب والعاطلين عن العمل، تلوح نُذر مواجهات سياسية جديدة في البلاد يوجد الرئيس سعيد في قلبها، ويمكن رصد بعض ملامحها من خلال خطابه في حفل تنصيب حكومة المشيشي، ولكن أيضا في تصريحات لنبيل القروي الذي دعا فيها الرئيس سعيد إلى "التزام حدوده وعدم التدخل في عمل البرلمان" كما لوّح القروي بإمكانية استخدام نواب البرلمان لبند في الدستور يخول لهم سحب الثقة من رئيس الجمهورية.
وفي ظل دستور يمنح سلطات متوازنة بين البرلمان ورئاسة الجمهورية والحكومة، وفي غياب محكمة دستورية، يخوض الرئيس سعيد مواجهات على جبهات عديدة: دستورية وسياسية وإعلامية، وهو ما يضفي على شخصيته طابع الرئيس "المحارب" الذي ذهب للحديث عن نفسه بأنه مستعد لـ"ممات يغيض العدى"، بينما يرى خصومه وحتى بعض المراقبين، بأن ذلك يفقده صفة الحَكَم والمرجعية العليا للمؤسسات والفئات السياسية المختلفة، التي يمنحها إياه الدستور بحكم وضعه في أعلى قمة هرم الدولة. وهو دور كان يضطلع به وببراعة الرئيس الراحل المخضرم الباجي قايد السبسي، الذي وصل للرئاسة بدعم من قوى مختلفة في الدولة العميقة وفي الطبقة السياسية، بخلاف الرئيس سعيّد الوافد من خارج المنظومة السياسية ويريد تغييرها بشكل جذري.
ولكن تطورات المشهد السياسي التونسي، لن تحددها فقط مكوناته ومواجهاته التي تظهر على السطح، بل أيضا لاعبون وقوى أخرى تؤثر من الخلف وبشكل قوي، ومن أبرزها حركات الاحتجاج عبر الشارع ومركزية الاتحاد العام التونسي للشغل النافذة ومكونات الدولة العميقة وبقايا النظام السابق وجماعات مصالح وقوى محلية وخارجية. وهو ما يجعل ديمقراطية تونس الناشئة أمام اختبار جديد وصعب.
منصف السليمي