من يتابع مواقع التواصل الاجتماعي التونسية يلاحظ حجم تضامن التونسيين أفرادا ومؤسسات مع اللبنانيين في محنتهم بعد انفجار مرفأ بيروت، إلى حد يبدو فيه أنهم نسوا معاناتهم المتواصلة منذ عدة شهور.
إذ تسبب جائحة كورونا لتونس أسوأ تراجع في اقتصادها منذ استقلال البلاد عام 1956، بمعدل ناقص 4,4 في الناتج المحلي الإجمالي هذا العام، كما يؤكد ذلك أحدث تقرير للبنك المركزي التونسي.
والمشكلة الحقيقية أن البلاد تعيش منذ انتخابات أكتوبر تشرين أول 2019، أزمة سياسية طاحنة تعطل بمفاعيلها أداء مؤسسات صنع القرار السياسي. خلال أقل من عام سقطت ثلاث حكومات، ويواجه تشكيل الحكومة الجديدة عقبات كبيرة.
وقصة العلاقة بين التونسيين ولبنان ليست مجرد روابط تقليدية كما هو الشأن مع معظم الدول "الشقيقة" في المشرق العربي، إذ تمتزج فيها روابط ملحمية من التاريخ القديم وصولا إلى رومانسية الزمن الجميل لبيروت المعاصرة، وأبعد من ذلك فان لديمقراطية لبنان رغم مثالبها الطائفية، مكانة خاصة لدى النخب التونسية. لكن كيف عساهم أن ينظروا اليوم إلى مستقبل أوضاعهم من خلال المشهد اللبناني؟
امرأة لبنانية شيدت حضارة تونسية على جلد ثور
كانت البدايات ملحمية وتعود إلى أكثر من ثلاثة آلاف سنة، مع قصة الأميرة علِّيسة ابنة ملك صور اللبنانية في العهد الفينيقي، والتي تمكنت بفضل دهائها الشديد من حكم تونس، حيث اشترت قطعة أرض تتسع لمساحة جلد ثور، وبعد ذلك وسّعت المساحة بمقاس جلد الثور بعد تقطيعه حبالا، ليتسنى لها أن تصبح مالكة لقطعة أرض واسعة في هضبة مطلة على البحر الأبيض المتوسط، وتشيد عليها مدينة حولتها إلى عاصمة لإمبراطورية خضعت لحكمها بلاد شمال أفريقيا.
وهي قرطاج الواقعة في الضاحية الشمالية لتونس العاصمة، وبقيت منها اليوم معالم أثرية ثمينة عن الحضارة الفينيقية. وعلى مسرحها كان يحلو لعمالقة الفن اللبناني مثل فيروز وملحم بركات كما الراحل وديع الصافي، الظهور في مهرجان قرطاج الدولي. ويوجد بها أيضا القصر الرئاسي الذي يرمز إلى أعلى مؤسسة سيادية للجمهورية التونسية الحديثة.
وتعتبر قصة علّيسة مُلهمة للنساء الرائدات في تونس، ومن شطارتها وحسن تدبيرها أيضا يطلق كثيرون صفة "لبنان بلاد المغرب" على تونس.
وعلى امتداد عقود من الزمن، شكلت صورة لبنان الحرية والديمقراطية، حلما بالنسبة للنخب التونسية، وخصوصا في مجالات حرية الصحافة والنشر والتعبير.
لكن بعد ثورتها في عام 2011، بدأت تونس تنظر لنفسها كنموذج لديمقراطية ناشئة واستثناء من بلدان الربيع العربي. وأصبحت التجربة الديمقراطية اللبنانية ترد في خطاب الاعلام والساسة التونسيين في سياق المحاذير التي توجه للأحزاب والجماعات السياسية والأيديولوجية المتطاحنة والتي وصلت أحيانا حافة الهاوية عندما شهدت البلاد في عام 2013 عمليتا اغتيال سياسي غير مسبوقتين منذ عقود في تاريخ البلاد.
ديمقراطيتا تونس ولبنان، هل تتشابهان؟
توجد عناصر عديدة تفرق بين ديمقراطيتي تونس ولبنان، وأولها الاختلاف في التركيبة السكانية والطائفية، فبقدر ما توجد طوائف وأعراق متعددة في لبنان تتسم التركيبة السكانية لتونس بالانسجام الديني والمذهبي إلى حد كبير.
وثانيا، لقد تأسست الديمقراطية اللبنانية على أساس توافقات طائفية معقدة سواء في مرحلة أولى إثر استقلال البلاد أو في طورها المعاصر إثر الحرب الأهلية وعلى أساس اتفاق الطائف، بينما تأسست الديمقراطية التونسية على أساس ثورة شعبية أطاحت بنظام مستبد حكم البلاد منذ استقلالها تحت راية الحزب الواحد والزعيم الأب.
وثالثا، ورغم عراقة التقاليد الديمقراطية في لبنان، فان مؤسسات الدولة وقوانينها ليست موحدة على أساس مدني، بل تتشكل من مزيج معقد من القوانين المدنية والدينية والأعراف والتقاليد. بينما تقوم بنيات الدولة التونسية ومؤسساتها على أساس مدني ومنسجم.
لكن بضع سنوات فقط من ممارسة الديمقراطية بتونس أظهرت حدود التجربة الناشئة والتي توصف بالاستثناء في بلدان الربيع العربي. اذ تحولت في فترة قصيرة من أرضية توافقية ودستور "مثالي" في المنطقة مُنحت على أساسه هيئات المجتمع المدني جائزة نوبل للسلام (2015)، إلى ساحة نزاع شديد بين الطبقة السياسية، نزاع يطال مختلف أوجه العملية السياسية، مما أدخل مؤسساتها السيادية كالرئاسة والحكومة والبرلمان في دوامة صراعات أفقدتها القدرة على الاستقرار أو الإنجاز في بلد يعاني أزمة اقتصادية واجتماعية تزداد حدتها منذ سنوات (ما بعد الثورة).
الحرب الأهلية اللبنانية هل تعني شيئا للتونسيين؟
في صيف عام 2013 كادت تونس أن تنزلق إلى دوامة عنف، ويعزو مراقبون نزع فتيلها إلى ما يطلق عليه بـ "توافق الشيخين"، أي الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي مؤسس حزب "نداء تونس" الليبرالي العلماني والشيخ راشد الغنوشي زعيم حزب النهضة الإسلامي، وفي عام 2014 شهدت البلاد حالة استقطاب أيديولوجي حاد بين الإسلاميين والعلمانيين ألقى بظلاله على الانتخابات التي كادت أن تتحول إلى ميدان عنف.
وقد مكّنت سياسة التوافق من سنّ دستور للبلاد وتشكيل حكومة ائتلاف وطني، وحالت سياسة التوافق دون اعتماد قانون العزل السياسي الذي كان سيتسبب في إقصاء كل بقايا نظام زين العابدين بن علي، كما حالت دون عودة موجة قمع لإسلاميي حزب النهضة شبيهة بما تعرض له الإخوان المسلمون في مصر بعد الإطاحة بالرئيس محمد مرسي، وبالتالي تم تجنيب البلاد "حمام دم" أو "حربا أهلية" كما يجري التذكير به في كل مرة في وسائل الإعلام وخطاب عدد من الساسة والمفكرين في تونس، للتحذير من مخاطر الانزلاق إلى ما يشبه الحالة اللبنانية في سبعينيات وثمانينات القرن الماضي.
لا توجد في تونس أرضية أثنية أو اجتماعية حاضنة للعنف المسلح بخلاف الوضع في لبنان، كما أن المؤسسة العسكرية تلتزم تاريخيا نهجا احترافيا بعيدا عن الاستقطاب السياسي وساهمت لحد الآن في حماية مسار الانتقال الديمقراطي. ولذلك يستبعد معظم المحللين أن يتطور الصراع السياسي والاستقطاب الأيديولوجي بين الإسلاميين وخصومهم العلمانيين إلى مواجهة عنيفة. لكن المثير أن ديمقراطية تونس الحديثة العهد قد نمت في أحشائها خلال بضع سنوات عدة
ظواهر سلبية شبيهة بالأمراض التي تشكلت في ديمقراطية لبنان خلال عقود.
أعراض مرض الديمقراطية التونسية
ففي تونس بات الانقسام الشديد في أوساط الطبقة السياسية كسمة أساسية تلازم النقاشات التي تشهدها وسائل الإعلام أو مواقع التواصل الاجتماعي أو السجالات داخل مؤسسات سياسية مثل البرلمان. ومنذ الانتخابات الماضية تعيش مؤسسات الدولة شبه شلل بسبب استخدام الأطراف السياسية لميكانيزمات نظام دستوري شبه برلماني شبه رئاسي، في مواجهات و"حروب" لا تتوقف. وعبارات "حرب" و"صواريخ" و"قصف" باتت مصطلحا يستخدم بدون تحفظ حتى من قبل رئيس الجمهورية قيس سعيّد أستاذ القانون الدستوري الذي جاء إلى الرئاسة بأغلبية شعبية ساحقة. وهو اليوم يخوض مواجهة بدون هوادة ضد الأحزاب السياسية وخصوصا منها حزبا "النهضة" الإسلامي و"قلب تونس" الليبرالي إضافة لـ"ائتلاف الكرامة" ذو التوجهات الثورية المحافظة.
وأدت سياسة لي الذراع بين الرئيس سعيد ورئيس مجلس نواب الشعب راشد الغنوشي إلى إفشال حكومة كان سيشكلها حزب النهضة باعتباره الحزب الأول الفائز في الانتخابات، وإلى إسقاط حكومة إلياس الفخفاخ بعد بضعة أشهر من تعيينه من قبل الرئيس سعيّد.
ويسود الترقب لنتائج الجولة الحالية من مشاورات خلفه المفترض رئيس الحكومة المكلف هشام المشيشي. وفي ظل تشتت أصوات الكتل النيابية وانقساماتها الشديدة يسود الغموض حول مصير الحكومة التي يُعتقد على نطاق واسع أن رئيسها الفعلي سيكون الرئيس سعيّد الذي يريد استبعاد الأحزاب منها.
وتشهد الساحة السياسية صراعات أكثر حدة بين إسلاميي "النهضة" وحلفائهم "ائتلاف الكرامة" من جهة وتشكيلات حزبية أخرى وخصوصا منها "الحزب الحر الدستوري" الذي تتزعمه عبير موسي، التي ترفع شعار إقصاء خصومها الإسلاميين من المشهد السياسي، وتدعو لإحياء سياسة القبضة الأمنية التي كان ينتهجها الرئيس الراحل زين العابدين بن علي. كما تخوض كتل نيابية لها خصومات مع إسلاميي "النهضة" مساعي حثيثة لإزاحة راشد الغنوشي من رئاسة البرلمان.
ديمقراطية تونس ليست محصنة
ويُخشى في تونس بأن تتطور الصراعات المحتدمة إلى الأسوأ، في ظل دخول قوى إقليمية على خط التنافس على النفوذ على الساحة التونسية، وتتبادل أطراف الصراع الاتهامات بالولاء لقوى خارجية، بل انعكس ذلك في خطوات تشريعية وإجراءات داخل البرلمان، في اتجاهات مضادة بين جبهتين: الإمارات - مصر من جهة ثانية وتركيا - قطر من جهة ثانية. ويساهم الصراع المسلح في الجارة ليبيا في تعميق هذه الخلافات وتثير مخاوف من تحولها من مجرد استقطاب سياسي إلى الانزلاق إلى العنف. فقد فاجأ الرئيس سعيّد مؤخرا المراقبين بخطاب مباشر وهو يجلس أمام قادة من الجيش والقوات الأمنية وتحدث فيه عن "مؤامرات" و"تدخلات" في الشؤون الداخلية لتونس.
وناهيك عن الاغتيالات السياسية، تعرضت تونس في السنوات القليلة الماضية إلى موجة أعمال عنف وإرهاب راح ضحيتها عشرات الأشخاص، وتسببت في متاعب اقتصادية كبيرة للبلد الصغير الذي يعتمد على السياحة والخدمات. ومن العوامل التي تساهم في تعقيد الوضع في تونس، بحسب تقارير عديدة، وجود علاقات متداخلة بين شبكات العنف وجماعات مصالح وفساد متغلغلة في مفاصل الاقتصاد ومؤسسات البلاد.
وفي ظل أعراض مرض الديمقراطية الناشئة في تونس، وتفشي النظرة السوداوية لدى فئات واسعة من المجتمع، تشجعها في ذلك نزعات شعبوية وقوى الدولة العميقة وشبكات إعلامية نافذة، لا تبدو البلاد محصنة كثيرا إزاء سيناريوهات الانزلاق نحو عودة قبضة أمنية أو أجواء العنف. وهي سيناريوهات يرى التونسيون تمثُلاتها في مآل الأوضاع في المشهد اللبناني. فيما يتمسك المتفائلون بالأمل في ترجيح صوت الحكمة التي يجنح إليها عادة ساسة تونس بمن فيهم الذين يعتمدون سياسة حافة الهاوية.
منصف السليمي