انتهاء حقبة الوجود السوري في لبنان بعد 29 عاماً
عندما ينتهي الاحتفال الوداعي الذي يقيمه الجيش اللبناني ظهر اليوم للقوات السورية المغادرة لبنان في قاعدة مطار رياق العسكري في البقاع بحضور كبار القادة العسكريين من البلدين، تبدأ حقبة سياسية جديدة في تاريخ لبنان من المتوقع أن لا تخلو من الخطورة والتعقيد. فالتفجيرات الأخيرة في بيروت كشفت بصورة واضحة عن مدى هشاشة الوضع الأمني الداخلي اللبناني، وعكست تعقيد صراع القوة الذي يجري بين القوى السياسية المعارضة للوجود السوري والقوي المؤيدة له في ظل غياب شخصية لبنانية تسمو بثقلها على منطق الطائفية وتساهم في إيجاد صيغة مشتركة تحافظ على الوحدة الوطنية.
وداع رمزي للقوات السورية
ومن المقرر أن يشمل الاحتفال الوداعي عرضاً عسكرياً يجري داخل قاعدة مطار رياق يشارك فيه 300 جندي سوري من الوحدات الخاصة، علاوة على 300 جندي لبناني. كما سيحضره ممثلون لقوات الطوارىء الدولية العاملة في جنوب لبنان وعدد من الملحقين العسكريين الأجانب والعرب. كما سيتم خلال الاحتفال وضع حجر الأساس لنصب تذكاري لضحايا الجيش السوري في لبنان التي تُقدر بـ12 ألف جندي. وفي هذا السياق أكد مدير التوجيه في الجيش اللبناني العميد الركن الياس فرحات أكد أنه لن يبقي أي جندي أو عنصر امني سوري في لبنان بعد انتهاء حفل الوداع. وأضاف:"بذلك نكون قد نفذنا القرار الذي اتخذه المجلس الأعلى اللبناني-السوري في 7 آذار/مارس بسحب كامل القوات السورية من لبنان."
وقبل ساعات من إتمام انسحاب الاستخبارات السورية، قدم قائد الأمن العام بلبنان اللواء الركن جميل السيد استقالته، معللاً ذلك بالتغيير الجذري الذي شهدته الساحة السياسية في لبنان. ويعتبر جميل السيد أقوى شخصية أمنية في لبنان، كما انه ساهم في إعادة بناء قوى الأمن وفي عودة الاستقرار إلى لبنان.
بداية الوجود السوري في لبنان
يعود الوجود العسكري السوري في لبنان إلى عام 1976 وهو العام الذي دخلت القوات السورية فيه لبنان كجزء من قوات الردع العربية الأراضي اللبنانية لأول مرة. وفيما بعد نجحت الحكومة السورية في إرساء تواجدها فيه والحصول على تفويض له من جامعة الدول العربية وفقاً لاتفاق الطائف الموقع في 22 تشرين الأول/أكتوبر من عام 1989 الذي وضع حداً للحرب الأهلية الدموية التي عصفت بلبنان وكادت أن تدمره كلياً. لكن رفض العماد ميشال عون، الذي كان على رأس حكومة من العسكريين المسيحيين للوجود السوري، فجر مواجهات دامية بين الميليشيات المسيحية.
وفي 13 تشرين الأول/أكتوبر انتهت الحرب رسميا في لبنان بسقوط العماد عون الذي فر من القصر الرئاسي والتجأ إلى السفارة الفرنسية بعد هجوم سوري لبناني مشترك. ولكن التغيرات الجيوسياسية الناتجة عن الحرب على العراق وما نتج عنها من سقوط لنظام صدام حسين، والاتهامات الأمريكية لسوريا بتوفير يد العون لمن تطلق عليهم "الإرهابيين" في العراق، علاوة على المبادرة الأوروبية-الأمريكية للإصلاح السياسي ونشر الديمقراطية "الدمقرطة" في العالم العربي، ساهمت في تزايد الضغوط الدولية على الحكومة السورية لتقليل نفوذها في لبنان. ثم جاء اغتيال الحريري ليصب الزيت في النار ويساههم في إصدار قرار مجلس الأمن الدولي للقرار 1559 الذي طالب بانسحاب سوريا الكامل من لبنان.
قلق أميركي ومطالبة أوروبية بإجراء الانتخابات
وفي غضون ذلك أعربت الإدارة الأمريكية عن قلقها تجاه ما وصفته "بإمكانية استمرار تدخل سوريا في شؤون لبنان بعد استكمال الانسحاب". ومن أجل تقييم الانسحاب على أرض الواقع يتوقع أن يصل إلى بيروت في الساعات المقبلة فريق من خبراء الأمم المتحدة، كما دعا الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان دمشق وبيروت إلى التعاون الوثيق مع الفريق الأممي. وطالب الأمين العام فريقه بإنجاز مهمته في أسرع وقت ممكن. ومن المقرر أن يرفع عنان اليوم تقريراً إلى مجلس الأمن بشأن تطبيق قرار 1559 وسيتناول هذا التقرير موضوع "حزب الله" ومزارع شبعا والانتخابات البرلمانية أيضاً. وتأتي هذه التطورات في الوقت الذي تستعد فيه الحكومة الانتقالية التي شكلها نجيب ميقاتي لطلب الثقة من مجلس النواب اللبناني والتحضير لأول انتخابات تشريعية تجرى في مرحة ما بعد الوجود السوري في لبنان.
ومن ناحية أخرى اعتبر المستشار الألماني شرودر والرئيس الفرنسي شيراك أن الإنسحاب السوري يتوافق مع روح قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1559. وأضاف الزعيمان أثناء لقاءهما في باريس ان تشكيل حكومة لبنانية جديدة يمثل خطوة للامام. وفي إعلان مكتوب صدر بعد الاجتماع حث الجانبان الحكومة اللبنانية على أن "تنظم انتخابات حرة وديمقراطية في الموعد المحدد وفق نظام تصويت متفق عليه بالإجماع".
مخاوف من آثار الانسحاب السلبية
لا يعود رفض الكثير من القوي السياسية الفاعلة لقرار مجلس الأمن 1559 بالدرجة الأولى إلى قضية الانسحاب السوري، وإنما إلى ما يتضمنه من تعديل لنصوص الدستور ولمسائل حساسة جداً مثل نزع سلاح كافة المليشيات بما فيها حزب الله، رغم وضوح الموقف اللبناني الرافض لنزع سلاح المقاومة، طالما استمر احتلال إسرائيل لمزارع شبعا. وبالإضافة إلى ذلك فإنه من الصعب جداً تصَّور فقدان سوريا لنفوذها المهيمن على العملية السياسية اللبنانية منذ عقود طويلة في لبنان دون صياغة حل شامل للمعادلة الشرق أوسطية يتم قبوله من جميع الأطراف. كما أنه يجدر بالذكر في هذا السياق هو أن الاقتصاد اللبناني، الذي اعتمد على العمالة السورية في السنوات الأخيرة، سيواجه صعوبات كبيرة في تعويض غيابها في ظل الارتباط الوثيق بينه وبين الاقتصاد السوري.