الوحدة الألمانية أسيرة الأحادية في المنظور العربي
ينظر العرب إلى الوحدة الألمانية التي تمت في الثالث من تشرين الأول/ أكتوبر من عام 1990 بإعجاب شديد. ويقف وراء هذا الإعجاب عوامل عدة لعل أبرزها حنينهم إلى وحدة عربية مماثلة وتقديرهم العالي لإنجازات الشعب الألماني وفي مقدمتها إنجازاته العلمية والصناعية. ويمكن وصف نظرة العرب إلى الوحدة الألمانية بأنها أحادية الجانب أو رومانسية إلى حد ما. ويتضح هذا الأمر من خلال حديثهم عنها. فهم يركزون في تناولهم لها مثلاً على أنها مقدمة لإعادة مجد ألمانيا العسكري أيام الحقبة النازية. كما أنهم غالباً لا يرون من خلالها سوى المزايا والمنافع لكلا الألمانيتين متناسين بذلك تبعاتها الاقتصادية والاجتماعية السلبية. ويأتي في مقدمتها المشاكل الهيكلية التي لحقت بالصناعة الألمانية ومعدلات البطالة العالية التي تعتبر من أعلى المعدلات في أوروبا. وهنا لا بد من القول أن وسائل الإعلام العربية تتحمل دوراً هاماً في نظرة كهذه كونها لا تنقل صورة متوازنة عما تشهده ألمانيا من تطورات سياسية واقتصادية على الصعيد الداخلي. كما أن ما يُنشر عنها في العالم العربي ذو طابع أدبي أكثر منه سياسي واقتصادي. وعليه لا يوجد أمام المواطن العربي وسائل كثيرة للاطلاع على ماضي ألمانيا وحاضرها بشكل أدق.
الوحدة الألمانية ليست نموذجاً
يدعو القوميون وكثير من الأكاديميين العرب إلى وحدة عربية على غرار الوحدة الألمانية. وهم بذلك يتناسون الفروق الكبيرة بين مكونات الشعب الألماني والعرب. فعلى الرغم من كون ألمانيا عبارة عن اتحاد بين ولايات تتمتع باستقلال نسبي فإن النسيج الاجتماعي الألماني أكثر انسجاماً من النسيج الاجتماعي العربي. فالاختلافات المذهبية على سبيل المثال لا تلعب دوراً يُذكر في تحديد الخط السياسي والسياسات الاقتصادية. وهناك اتفاق بين مختلف القوى السياسية الألمانية على تنظيم العلاقة بين الدين والدولة. كما أن الألمان متفقون على الدور الذي تلعبه المرأة في المجتمع بعكس العالم العربي الذي يمارس سياسات مختلفة بهذا الشأن. وتصل بعض هذه السياسات إلى حد حرمانها من حقوق أساسية كحق التصويت والعمل في مجالات عديدة.
ألمانيا اليوم غير ألمانيا الأمس
ما تزال ألمانيا ما قبل الحرب العالمية الثانية تطبع صورة العرب عنها. ويقصد بذلك ألمانيا التي صنعت أحدث الأسلحة وتسببت بحربين عالميتين وارتكبت أبشع الجرائم بحق البشرية وتحدت العالم وحاربته إلى أن خسرت واندحرت أمام الحلفاء. غير أن التطورات التي شهدتها بعد الحرب العالمية الثانية وخاصة في مجال بناء الديمقراطية والاستقرار السياسي والابتعاد عن النزعات القومية والعنصرية والعسكرة ليست واضحة حتى الآن في أذهان معظم سكان عالمنا العربي. وليس من الواضح في أذهانهم كذلك الدور المحوري الذي لعبته وتلعبه في عملية توحيد أوروبا والتي رأى فيها المستشار الألماني هيلموت كول سقفاً للوحدة الألمانية وعاملاً هاماً في احتواء النزعات النازية والقومية والمتطرفة. وهناك جهل بحقيقة أن اتخاذها لمواقف معينة تأييداً لهذه القضية العربية أو تلك لا يعني التخلي عن مبادئها القائمة على رفض دخولها طرفاً في النزعات. ويجسد ذلك موقف المستشار شرودر الذي عارض حرب العراق انطلاقاً من رفض العنف كوسيلة لحل النزاعات وليس انطلاقاً من رفضه لسياسة الولايات المتحدة أو تأييده للعرب. وعليه فإن نظرة العرب إلى ألمانيا ما تزال أسيرة الماضي التي سعت فيه لتزعم العالم ضاربة عرض الحائط بالثمن الباهظ الذي تحملته وحمّلته للعالم جراء ذلك، والمتمثل بعشرات الملايين من الأبرياء وتدمير الآف المدن والقرى. ومع إعادة توحيد الألمانيتين يرى الكثيرون من العرب أن ألمانيا الموحدة ستعود أو ستحاول العودة إلى ماضيها العسكري بالتدريج ناسين أن ظروف اليوم غير ظروف الأمس وأن مصلحتها ليس في خوض الحروب وإنما في الاندماج مع الأسرة الأوروبية. كما أن هذه المصلحة تكمن في السباق الاقتصادي الذي حققت من خلاله أفضل رفاهية في تاريخها. وجاءت هذا الرفاهية بعد الحرب العالمية الثانية التي شهدت خلالها معجزة اقتصادية جعلت منها ثالث قوة اقتصادية في العالم بعد الولايات المتحدة واليابان. وقد ساعدها على ذلك الوحدة الأوروبية التي احتضنتها سياسياً وفتحت أمامها سوقاً واسعة لتصريف منتجاتها على الصعيد الاقتصادي.
مطلوب اتخاذ العبر
لقد تعلمت ألمانيا من تاريخها بعد الحرب العالمية الثانية. فهي تهمل منذ ذلك الحين على نفض غبار الحقبة النازية من خلال تعاملها النقدي والجريء مع هذه الحقبة. وهناك إجماع بين مختلف القوى السياسية الألمانية على توظيف دروسها من أجل مستقبل يقوم على حل المشاكل بالطرق السلمية بعيداً عن العنف والحروب وبناء على حق الشعوب في تقرير مصيرها. وبناء عليه أجرت مصالحة ذات كلفة عالية مع جيرانها وأعدائها السابقين. وفي هذا الإطار كانت من السباقين إلى المساهمة في بناء البيت الأوروبي الذي ولد فيه الاتحاد الأوروبي. كما بنت نظاماً سياسياً ديمقراطياً يصعب على النازيين وأمثالهم اختراقه. إضافة لذلك فقد ابتعدت عن نزعة العسكرة مفضلة تنمية شاملة بالاعتماد على الصناعات المدنية. ولا يغير من حقيقة ذلك أنها ما تزال من البلدان الهامة التي تنتج السلاح الخفيف والمعدات الأمنية. هذا التعامل النقدي مع التاريخ أمر في غاية الأهمية بالنسبة لعالمنا العربي. فعلى الرغم من مرور أكثر من قرن ونصف على ما يسمى بعصر النهضة العربية فإنه يبدو مراوحاً مكانه على صعيد القضايا التي طرحت آنذاك والمطروحة اليوم. ويأتي في مقدمتها قضايا المرأة والدين والدولة وتنظيم الحياة السياسية والعلاقات بين دوله وبينها وبين جيرانه.
د. ابراهيم محمد